الملا عبد المحمد النجفي
الملا عبد المحمد بن الشيخ عبد علي الخطيب النجفي كان قلباً كبيراً نابضاً بالحبّ والولاء من أشهر مشاهير خدام سيد الشهداء أوفى بعهده حتى أُقعد فخدم سيده محمولاً على عربة ولم يهن ولم يضعف روحه الوثّاب إلى سماء الحسين (عليه السلام) حتى يوم الرحيل والالتحاق بركب الشهداء والصديقين من أصحاب ريحانة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في دار الكرامة عام 1389هـ .
----------------------
ملف خاص بخادم الحسين الوفي الملاّ عبدالمحمد الرادود بأقلام :
1 ـ الدكتور عباس الترجمان .
2 ـ الدكتور الشيخ أحمد الوائلي .
3 ـ الخطيب السيد حسن الكشميري .
4 ـ الخطيب الشيخ محمد سعيد المنصوري .
5 ـ نموذج من شعره القريض والشعبي .
----------------------
بقلم : الدكتور عباس الترجمان
بسم الله الرحمن الرحيم
كيف عرفت الملا عبد المحمد
الحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله الطاهرين ، والطيّبين من أصحابه أجمعين ، وبعد :
منذ أن تطلّعت إلى المجتمع النجفي ـ الذي يمتاز عن سائر المجتمعات بمميّزات تخصّه دون غيره ـ منذ طفولتي ، حينما كنت أرتقي الأعواد منشداً مراثي أهل البيت (عليهم السلام) كان يطرق سمعي ذكر الشيخ «عبد المحمّد الرادود» ، بشيء من الاحترام والتعظيم ، ثمّ أخذت أتابع مواقفه في الصحن العلويّ الشريف ـ مهما أمكنني ـ معجباً بجرأته الأدبيّة ، وصوته الجهوريّ ، وشدّته في ذات الله ، وشعره في نصرة النبيّ وآله المظلومين (عليهم السلام) ، وثباته ودأبه في هذا المجال ، في موارد الأفراح والأتراح ، وكان لا يترك مناسبة إسلاميّة إلاّ واحتفل بها ، أو تظاهر بموكبه «موكب الشوشتريّة» في النجف الأشرف ، كلّ ذلك تعظيماً لشعائر الله تعالى ، وكان بعيداً عن الرياء والسمعة والتشريفات ، والمنافسات التي لا ترضي الله ، ولا يهتمّ بكثرة ا لناس أو قلّتهم في مجلسه ، فكان يؤدّي ما يراه لازماً من الإحتفال بمواليد المعصومين ووفيّاتهم وكراماتهم (عليهم السلام) ، وكذلك كان يكرّم العلماء ويجلّهم بمسيرة موكبه في رحلتهم إلى دار البقاء .
وكنت أوّل ما حضرت مجلسه ، وسمعت قراءته طفلاً صغيراً كان قد جلبني معه أخي الأكبر الشاعر الأديب «عبد الأمير ترجمان» إلى حسينيّة المرحوم الحاج خليل خادم الحسين (عليه السلام) ، المشهور «خليل كور» الذي كان أعمى ، لكنّه كان مولعاً بخدمة أهل البيت (عليهم السلام) وذلك بمناسبة كرامة ظهرت آنذاك للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) لا أتذكّر ماهيّتها الآن بالضبط ، واحتفل النجفيّون بهذه الكرامة الباهرة ، وزيّنت الأسواق ، وتليت القصائد والأناشيد في مدحه (عليه السلام) وذكر هذه الكرامة ، فارتقى المرحوم الشيخ عبد المحمد المنبر وأنشد قصيدته التي أحفظ مطلعها منذ ذلك الوقت ، وهو :
يا حيّ أبو حسين السطع برهانه .. أمست الشيعه بمعجزة فرحانه
وكنت أتشوّق إلى إنشاده ; لأنّه كان يشدّ من يسمعه إليه ليتابعه ، وما ذلك إلاّ بسبب إخلاصه في عمله ، وبعده عن السمعة والرياء ، فكان خادماً واقعيّاً للإسلام وقادته ، وبعد أن تعرّفت عليه وتعرّف عليّ كان يوجّه إليّ نصائحه وإرشاداته بين الفينة والفينة .
ولقد رأيته يوم وفاة آية الله المرحوم الشيخ جعفر البديري ـ وهو من علماء النجف الأشرف والمراجع الزاهدين في الدنيا ـ قد خرج إلى بداية وادي السلام ، عند سفح التلّ المعروف بالجبل ، ينتظر مجيء الجثمان الطاهر من المغتسل المعروف بـ «بئر عليوي» ، وعادة النجفيين هي أن يشيِّعوا جنائز علمائهم وزعمائهم تشييعاً حافلاً بمواكبهم وهيئآتهم ، نعم ; رأيت المرحوم الشيخ عبد المحمّد واقفاً ، ومعه طفلان يحملان علمين أسودين مثلّثين ، ولم يكن معه أحد غيرهما ، وهو مع شيخوخته ينظر يميناً وشمالاً ، يريد من يعينه على مسيرة موكبه ، فأكبرت موقفه هذا ، وخشع قلبي إجلالاً له ، فأتيت إليه ، وسلّمت عليه ، وبعد التعزية قلت : يا شيخي ، قف أنت مع علم واحد في الأمام ، وأنا مع العلم الآخر وراءك ; لنكوّن نواة الموكب وألق عليّ النشيد لنتناوله معاً ، وكان (رحمه الله) ينزع إلى الأناشيد السهلة القصيرة ; ليسهل حفظها وترديدها ، فأنشد هو : «أهل العلم مات اليوم» وأمرني بانشاد : «جعفر بدرها المعلوم» ، فبقينا مدّة على هذه الحال ، حتّى هيّأ الله لنا من التحق بنا ، وسار الموكب تعظيماً وتشييعاً للفقيد الراحل .
وكان هذا دأبه في كلّ المناسبات ، لا يترك مناسبة دينيّة إلاّ واحتفل بها سواء في الأفراح أو الأتراح ، ولم ينقطع طيلة حياته ، حتّى مرض مرضه الأخير الذي توفّي فيه ، وعجز عن المشي ، وكان ملازماً لموكب الشوشتريّة ـ ولم يكن هو شوشتريّاً ـ ولقد رأيته آخره مرّة ، وهو محمول في عربة خشبيّة صغيرة ، يدفعونها في الصحن الشريف ، حتّى أصعدوه وأجلسوه على المنبر ، فأنشد مراثيه الشجيّة .
ولما كنت بعيداً الآن عن المحيط النجفيّ الفيّاض بالعلم والأدب لم أطّلع على شيء من نسبه ودراسته ونشأته الأُولى ، غير أنّه عبد المحمّد بن المرحوم الشيخ عبد علي الخطيب النجفيّ ، وأنه كان يقول لي ـ أحياناً ـ إنّ أباك أُستاذي ، وأنّه كان يمتهن الكتابة في بعض المحالّ التجاريّة ، ويقرّض الشعر .
ولقد كرّس المغفور له حياته في نصرة آل الله وآل رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) إنشاءً وإنشاداً وخدمة ، وكان ملتزماً متبرّعاً بادارة حسينية الشوشتريّة الواقعة في زقاق «السلام» بمحلّة العمارة في النجفالأشرف ويقوم بتنظيمها وتنظيفها بنفسه ، وتضمّ هذه الحسينيّة مكتبة ضخمة عامّة تحتوي على كثير من المخطوطات ، فكان مخلصاً بخدمته لأهل البيت (عليهم السلام) ، وقد شاهد منهم (عليهم السلام)كثيراً من الكرامات ، منها ما نقلها السيّد عبد الحسين المعروف بالسيّد عبّود ابن المرحوم السيد علي الحسيني المعروف بـ «أرزون فروش» النجفي الساكن حاليًّا في مدينة قم المقدّسة قال : إنّ الملاّ عبد المحمّد قال لي ذات يوم : كنت مسافراً إلى مدينة الديوانيّة لقضاء بعض الأشغال ، وكان اليوم يوم الثلاثاء ـ وهو اليوم الذي كان يعقد فيه مجلساً في مسجد سهيل «السهلة» غربيّ مسجدالكوفة بما يقرب من خمسة كيلومترات ـ ولمّا أردت الرجوع إلى النجف ; لأذهب إلى مسجد السهلة ; لكي أُقيم المجلس الأُسبوعي هناك ، لم أحصل على واسطة نقل تنقلني من الديوانيّة إلى السهلة ، وقد قارب الوقت الغروب ، فبقيت مفكّراً في أمري ، وأنا واقف على قارعة الطريق ، وإذا بسيّارة وقفت إلى جنبي ، وقال سائقها : إركب يا ملاّ ، وقد فتح باب السيّارة ، فقلت له : أُريد الذهاب إلى النجف ثمّ إلى مسجد السهلة ، فقال : أدري .. ; إركب ، فركبت ، وسارت السيّارة ، وبعد قليل وصلنا إلى السهلة ، وأوقف السائق السيّارة عند باب المسجد ، فلمّا نزلت من السيارة ونظرت إلى داخل المسجد وإذا بالمؤذّن يؤذّن لصلاة المغرب ، وكنت أفكّر بما أعطي من أجر للسائق ، فالتفتّ فلم أرَ السائق ولا السيّارة .
ونقل الأخ طالب ـ جامع الديوان ـ بن المرحوم الحاج رجب التنكچي عن الشيخ صالح المجلسي أنّ الملاّ عبد المحمّد مرض مرضاً شديداً ، عجز عنه الأطبّاء ، فأخذ شيئاً من تربة الإمام الحسين (عليه السلام) وتوجّه نحو الحسين (عليه السلام)وطلب من الله الشفاء بواسطة هذه التربة الشريفة ، فشافاه الله تعالى ، وبرئ من مرضه ، ونظم قصيدته الموجودة في الديوان ، والتي مطلعها :
تربتك يبن الزچيّه تربتك .. أعظم دوه وبيها الشفه
وقال السيّد عبّود الحسيني «أرزون فروش» المذكور :
إنّ زوجتي مرضت ، واشتدّ بها المرض ، فكانت تقول لي : قل للملاّ عبد الممّد ليأت إليّ ، وكنت أخبره عن حالها ، ولم أقل له ما طلبت من إتيانه إلى البيت ، وفي ليلة من الليالي أتيت إلى البيت فرأيت زوجتي قد غلب عليها المرض ، ولم تتكلّم ، وقد اجتمع عندها إخوتي ونساؤهم ، فلمّا دخلت قاموا بوجهي ، ووبّخوني ، وقالوا : لم لا تأت بملاّ عبد المحمّد ؟ إذهب الآن وأتنا به ، وكان الوقت يقرب من منتصف الليل ، فخرجت من البيت لكثرة الإلحاح ، ولكنّي أُفكّر في أمري ، وكان الجوّ بارداً والمسافة بعيدة ، لأنّ دارنا تقع في محلّة «المشراق» ودار الملاّ في محلّة «الحويش» ، والحرّاس لا يدعون أحداً يمرّ إلاّ بعد التحقيق ، وكان بيتنا في دهليز طويل ، فلمّا خرجت من الدهليز ، وإذا به أمامي ، فسلّمت عليه ، وقلت له : ما الذي جاء بك في هذا الوقت ؟ فقال : جئت لعيادة ابنة خالي يا سيّد ، فرجعت إلى البيت فرحاً لأخبرهم ، فأخبرتهم بمجيئه فأنكروا عليّ ذلك ، فلمّا جاء ودخل وجلس عندها ، غمزها بيده ، وقال لها : كيف حالِك يا أُمّ نجم ؟ فلم تكلّمه ، فأعاد عليها القول ثانياً وثالثاً ، ففتحت عينيها وقالت : الحمد لله ، فجعل يكلّمها حتّى تمكّنوا من إجلاسها ولم يصبح الصباح حتّى أخذ حالها بالتحسّن وبرئت من مرضها .
إلى غير ذلك من الكرامات التي يظهرها الله تعالى كرامة لأوليائه وأحبّائه .
وكان الشيخ عبد المحمّد (رضوان الله عليه) طويل القامة ، ذا صوت جهوريّ ، ولحية بيضاء ، نحيف الجسم ، قويّ الإرادة ، صلب العقيدة جريئاً ، يتحمّل في سبيل نصرة الدين وخدمة أهل البيت (عليهم السلام) أنواع الأذى والمشاق ، ولا يكفّ عن خدمته ، وكان شجاعاً مقدماً ، له مواقف تدلّ على شجاعته وإقدامه ، منها ما نقله السيّد عبّود الحسيني المذكور أيضاً ، قال :
قال لي الملاّ: كنت في كلّ ليلة أربعاء أذهب إلى مسجد السهلة ماشياً على الأقدام ، وفي ليلة من لياليها ، ذهبت مع أحد أصدقائي ، فلمّا وصلنا إلى منطقة «كري سعد» رأينا رجلين من الريفيين يحفران قبراً ، وإلى جانبهم بنت تبكي ، ورجل آخر إلى جانبها ، والبنت مضطربة ، والرجال مسلّحون ، فسلّمنا عليهم ، فلم يردّوا السلام ، فقلنا في أنفسنا إنّ وجوههم ليست وجوه سلام ، فقلنا لهم : ماذا تصنعون ؟ فقالوا : إذهبوا لحالكم ، ما أنتم وذلك ! فقالت البنت : يريدون دفني وأنا بريئة غير مجرمة ، دخيلتكم ، خلّصوني ، قال : فما تمالكنا أنفسنا وهجمنا عليهم ، ولحق بنا بعض الذين كانوا يريدون الذهاب إلى مسجد السهلة ، وسمعوا أصواتنا ، فساعدونا ، وانهزم الرجلان ، فحملنا البنت ، وجئنا بها إلى دار آية الله العظمى السيّد محمد كاظم اليزدي ، وكان في مدينة الكوفة آنذاك ، وأخبرناه بالخبر ، فقال السيّد لخادمه : ناولني الدفتر ، فجيء بالدفتر الخاص بالحوادث ، وسجّل فيه اسمي ، واسم البنت واسم أبيها وعشيرتها ، وأمر النساء أن يكشفن عن البنت ، فكشفن ، فوجدنها باكرة سالمة ، فعند ذلك عقدها السيّد لأحد أحفاده في تلك الليلة ، وأدخله عليها ، ورزقه الله منها أولاداً صالحين ، وكان اسم كبيرهم السيّد محمد .
قال الملاّ : وبعد سنين جاء جماعة من الأعراب إلى السيّد كاظم اليزدي ، فسلّموا عليه ، وقالوا سيدنا: عندنا مسألة ، فقال : سلوا ، فتقدّم كبيرهم وقال : كان عندنا ظفر أنتن ، وأردنا قلعه ودفنه في «كري سعد» إذ هجم علينا رجلان كالأسدين ، وأخذا البنت من عندنا ، ولا علم لنا بها لحدّ الآن ، ولها غنيمات وهويشات ما ندري ما نصنع بها ؟ فلما سمع السيّد قولهم قال لأحد أصحابه : ائتوني بأُمّ السيّد محمد وأولادها والدفتر ، فأحضروها وأولادها كأنّهم النجوم الزاهرة ، وفتح السيّد الدفتر وقال للشيخ المتقدّم : ما اسم هذه البنت واسم أبيها ؟ وسأله عن الأُمور التي سألها من البنت في وقتها ، فأجابه بما كانت قد قالته ، فعند ذلك وبّخهم السيّد ، وقال لهم : بأيّ حقّ أنتم تجتازون حدود الله بما ليس لكم به علم ؟ ثمّ قال للأولاد : هؤلاء أخوالكم ، وأخبرهم السيّد بالموضوع بصورة مفصّلة ، فندموا على فعلتهم وأخذوا يبكون ويعتذرون ثمّ انصرفوا .
والحديث عن المرحوم الشيخ عبد المحمّد طويل لا تضمّه هذه القصاصات ، وذو شجون أيضاً ، لأنّه تحمّل آلاماً كثيرة في سبيل خدمته ، وكان بالإضافة إلى إدارته هيئة «الشوشتريّة» ملتزماً بعقد مجلس في مسجد السهلة كلّ ليلة أربعاء عند مقام (مصلّى) الإمام المنتظر (عجّل الله تعالى فرجه) ، حتّى توفّاه الله راضياً مرضيّاً يوم الثاني والعشرين من شهر صفر لسنة تسع وثمانين وثلاثمائة بعد الألف من الهجرة النبويّة الشريفة ، فعطّلت له مدينة النجف أسواقها ، وشيّعته المواكب العزائيّة وجماهير الناس الأخيار من علماء وأُدباء وتجّار وكسبة جثمانه الطاهر إلى مثواه الأخير في جوار أمير المؤمنين (عليه السلام) رزقنا الله الدفن في تلك البقعة المقدّسة .
وللمرحوم الشيخ عبد المحمّد أشعار كثيرة عند أبنائه الثلاثة في النجف الأشرف ، وقد اهتمّ بجمع شعره في المهجر أخونا الشاب المؤمن المتحمّس في ولاء أهل البيت (عليهم السلام) طالب بن المرحوم الحاج رجب التنكچي النجفي الساكن حاليًّا في مدينة قم المقدّسة في إيران ، فبذل الجُهد الكبير والمال الوفير لجمع ما تيسّر من شعره على بُعد الديار وقلّة المصادر ، فتحمّل العناء الكثير ، وبذل ما تمكّن من المال لجمعه وتدوينه ، وهو مصمم على طبعه فجزاه الله خير جزاء الُمحسنين ، وقد طلب منّي القيام بتنظيمه وترتيبه وتصحيحه ، فقمت بذلك راغباً خدمة لخدّام أهل البيت (عليهم السلام) لا سيّما المرحوم الشيخ عبد المحمّد .
ولا يخفى أنّ الشعر المجموع لم يكن كلّ شعره ، وحتّى أنّ كثيراً من القصائد لم تكن كاملة ، وبعضه قد يُشتبه فيها أنّها لغيره ـ رضوان الله عليه ـ مثل قصيدة : «من دفن بتّ النّبي واليها» التي لا أشكّ في أنّها للمرحوم «عبّود غفلة» ، ولكنّي لم أر لها أثراً في أشعار المرحوم عبّود غفلة الموجودة لديّ ، المطبوعة والمخطوطة منها ، ولذا فإنّي قدّمت القصائد التامّة ـ نسبيّاً ـ في هذا الديوان ، ثمّ ألحقت النواقص ، عسى أن تتهيّأ تتّماتها في المستقبل ـ إن شاء الله تعالى ـ فتُلحق بها ، كُلّ ذلك إحياء لذكر ناظمها وتقديراً لخدماته الخالصة لوجه الله ، آملاً أن ينفعني ذلك يوم لا ينفع مال ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلب سليم ، وسلام على المُرسلين ، والحمد لله ربّ العالمين .
تقريض ورثاء
ربما من قرأ تقريضي هذا يراني مغالياً في هذه الشخصية الفذة في الولاء لأهل بيت النبي (صلوات الله عليه وعليهم) وأنا بعيد كل البعد عن الغلوّ ، ولكن ما قلته هو الحقيقة التي أشعرها وأراها جليّة في واقع المرحوم شيخنا (عبد المحمد الرادود) الذي كرّس حياته تكريساً في خدمة سادته وشفعائه حشره الله معهم في مستقر رحمته ورضوانه ورزقنا شفاعتهم بمنّه وغفرانه :
ما مات من يُرثى ويُحمد .. في الناس يا عبد المحمّد
فالذكرُ باق لا يزالُ .. على المدى والشخصُ يُفقَد
هذي أكاليلُ الشعور .. على مزار الشعر تُعقَد
هذي خمائل فكرك .. الوقّاد للروّاد مقصد
هذي لئالئُك اليتيمةُ .. أصبحت للفكر مشهد
في «الجوهر المنظوم» إذ .. جيد الزمان بها يُقلَّد
قضيت عمرك مخلصاً .. متفانياً لبني محمّد
ما ضاع ما كرّستَهُ .. بولائهم والخير يُرصد
يهنيك إذ جاورتهم .. في الخُلد والعيش المؤبد
وسَعُدتَ يا عبد المحمّد .. بجوارهم في اليوم والغد
طهران ـ عباس ترجمان
==***==***==***==***==
بقلم : الخطيب البارع الدكتور أحمد الوائلي
بسم الله الرحمن الرحيم
« كلّ هذا عبد المحمّد ذُخرٌ »
إلى الروح المؤمنة والضمير الطاهر والولاء الصادق والمشاعر الواضحة .
إلى المنشد والمنشي في سرّاء آل محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وضرّائهم هذه المشاعر مشفوعة بطلب الرحمة والرضوان لخادم آل النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عبد المحمّد طيّب الله ثراه ، وأسعده بحِمى أمير المؤمنين (عليه السلام) :
لك مهما طال الزمان وأبعدْ .. صورة في خيالنا لا تُبدّدْ
قسماتٌ فيها شحوب وحزنٌ .. وجبين من السجود مُسجّدْ
وجفونٌ تقرّحتْ وليالي .. المتّقين الأبرار جفن مُسهّدْ
وزفيرٌ في آهة ودموعٌ .. في مصاب ابن فاطم ليس تنفدْ
كلّ هذا «عبد المحمّد» ذُخرٌ .. أنتَ فيه على المدى تتجدّدْ
وسيحييك كلّما هلّ عاشو .. رُ صدىً في نواح آل محمّدْ
وهديرُ الصوت الأجشّ ونبرٌ .. كم لآل النبيّ ناحَ وغرّدْ
ويقين بأنّ دارك في الأُخرى .. بظلّ الحسين في (خير مقعدْ)
فإذا ما لقيتَ يوماً حسيناً .. في مقام سام وصرح مُمرّدْ
وتأمّلتَ في جبينِ أبيّ .. هبط الكونُ كلّهُ وهو يصعدْ
ولمستَ الشموخَ عندَ كميّ .. أرعبَ الجيشَ وهو شلوٌ مُقدّدْ
وكيانٌ ظنّوا بأن يحتويه .. القبرُ لكن على التراب تمرّدْ
قلْ له هذه مشاعر عبد .. خادم كم روى نثاك وردّدْ
هو بالغد ناشدٌ مجدك الغمر .. كما بالحياة منك تمجّدْ
سحرتهُ رؤاك واشتار منها .. كلّ يوم شيئاً جديداً فجدّدْ
فتعاهده يوم غربته الكبر .. ى إذا ما دُعي إلى الله مُفردْ
روّهِ من حياضكم يوم تظما .. كلّ نفس فأنتّ نبعٌ مُصرّدْ
شُدَّ منه (يوم السرائر تُبلَى) .. ساعة الحشر والجوارح تشهدْ
وتقبّل هذي المشاعر والإ .. كبار من خادم المنابر أحمدْ
أحمد الوائلي
==***==***==***==***==
بقلم : الخطيب السيّد محمد حسن الكشميري
بسم الله الرحمن الرحيم
كان أوّل لقائي بالمرحوم الملاّ عبد المحمد (رحمه الله) يوم بعثني أُستاذي السيّد جواد شبّر إلى الحسينيّة الشوشتريّة في النجف الأشرف ، وذلك لكتابة موضوع يوجد في كتاب مخطوط بمكتبة الحسينيّة باسم : «الصوارم الحاسمة في مصائب الزهراء فاطمة (عليها السلام)» ، وحين مكوثي في المكتبة كان يلفت نظري وجود هذا الشاعر وهو بذلك السنّ وضعف البدن وبياض الشيبة ومظهر الوقار وهو يقبض على المكنسة ويكنس الحسينيّة بتؤودة وهدوء ; مما أقنعني بأنّه يقوم بذلك لا بعنوان عمل استُؤجر عليه وإنّما لاعتقاده بأنّ هذه الخدمة لسيّد الشهداء لها رصيدها يوم القيامة وهي مدعاة للاعتزاز والتفاخر بها يوم الحساب .
ثمّ ازداد تعلّقي به بعد أن ذكر لي أُستاذي سماحة الشيخ محمد أمين فخر الدين والذي كنت أدرس كتاب «المعالم» عنده في مدرسة الشربياني بمحلّة (الحويش) في مدينة النجف الأشرف حيث جرى الحديث معه يوماً عن الرؤيا والمنامات فقد ذكر لي رؤيا معجبة صادقة تتعلّق بالمرحوم الملاّ عبد المحمّد ; وهي أنّه كان سماحة الشيخ محمّد أمين فخر الدين يطلب من الإمام الحسين (عليه السلام)دائماً أن يُريه في المنام حبيب بن مظاهر الأسدي ، وفي مرّة من المرّات كان قد بات في كربلاء فألحّ على الإمام الحسين (عليه السلام) بهذه الحاجة ، فرأى في تلك الليلة في المنام شخصاً كأنّه سيّد الشهداء «الإمام الحسين (عليه السلام)» وهو يُخاطبه بأنّك لا تستطيع أن ترى حبيب بن مظاهر ولكنّك حينما ترجع إلى النجف وتدخل إلى الصحن سترى على المنبر في الصحن رجلاً يرثي أهل البيت (عليهم السلام) ويلطم ; فهو شبيه لحبيب بن مظاهر تماماً .
يقول الشيخ فخر الدين : وعند الصباح رجعت إلى مدينة النجف واتّجهت إلى الصحن الشريف وكان يوم مناسبة شهادة أحد الأئمة المعصومين (عليهم السلام)فلاحظت على المنبر المرحوم المُلاّ عبد المحمّد وهو يلطم ويقرأ الأشعار المَرثِيّة بتلك المناسبة .
بعد ذلك كنتُ وثيق الصلة به ، مُعجباً بطبعه الهادئ ، وصوته الساخن ، ومُجاملاته البعيدة عن الضوضاء والتصنّع ، فهو إلى جانب مظهره العادي وحقيبته البسيطة التي تضمّ أقلامه ومحبرته وأوراقه التي كان يربطها بحزامه ; كان الرائي ينظر إليه ويشعر بالهبوط والتصاغر أمام هيبته التي تمتّع بها (رحمه الله) من جرّاء تفانيه وذوبانه في حّبّ آل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وكان يُزوّدني أحياناً بمقاطع من شعره السلس ، والذي كنتُ أجد فيه آثار القريحة الفطريّة والمضمون الثقافي المُكتسب من خلال علاقته مع تُراث آل البيت (عليهم السلام) وكانت آخر قصيدة دوّنتّها منه هي قصيدته المروّعة في المُقارنة بين الحاجّ وحجّ الإمام الحسين (عليه السلام) وهي موجودة في ديوانه ، فرحمة الله عليه ، ودُعائي له ، وأسكنه الفسيح من جنّته ، ووفّقني لأنهج نهجه ، وأقتفي أثره «خدمة لريحانة الرسول ; نجل المرتضى والبتول» .
==***==***==***==***==
بقلم : الشيخ محمد سعيد المنصوري
بسم الله الرحمن الرحيم
«مواكب التشييع لخادم آل الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)»
«الملاّ عبد المحمّد»
لمّا توفّي الشاعر الكبير المرحوم الملاّ عبد المحمّد شيّع جثمانه بعد إجراء المراسيم الواجبة تشييعاً قلّ أن يحصل مثله إلاّ لكبار العلماء .
واتّفق الجميع أن يطاف بنعش هذا المخلص ضريح سيّده أبي عبد الله الحسين وأخيه أبي الفضل العبّاس (عليهما السلام) .
فتوجّه به ذلك الجمع الغفير إلى كربلاء ليجدد عهداً بالإمام الحسين (عليه السلام) ، ولمّا وصل موكب التشييع إلى كربلاء إستقبلهم وجهاء المدينة وكسبتها للمشاركة في التشييع ، وكان من جملة المشيّعين الشاعر الكبير «المرحوم الشيخ كاظم منظور» وهو يتقدّم حلقتين كبيرتين تنشد إحداهما :
جاك من الغري خادمك يحسين .. جاك من الغري خادمك يحسين
من حماي جاره بس گصده الزياره .. جاك من الغري خادمك يحسين
والثانية :
هذا الگضّه عمره إبخدمة الدين .. هذا الگضّه عمره إبخدمة الدين
عنوانه وشعاره دم دمعه التجاره .. هذا الگضّه عمره إبخدمة الدين
وبعد أن طافوا به قبر الحسين والعباس (عليهما السلام) أقفلوا راجعين بالجثمان إلى مثواه الأخير في النجف الأشرف .
وهناك إستقبل نعش خادم آل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بالحنين والأنين من قبل المواكب الحسينية من أربعة أطراف النجف : (الحويش) (العمارة) (المشراگ) (البراگ) ووضع الجثمان في (نعش كبير) ورفع على أطراف الأنامل ، تحفُّ به المواكب الأربعة ، مرددة أشعارها المشجية ، وكان «موكب شباب عليّ بن الحسين (عليه السلام)» أمام النعش يرددون أهازيجهم الشعريّة الرثائيّة ويلطمون صدورهم ، وعندما يتغلّب عليهم الحزن يسمع لهم صوتٌ واحدٌ :
اُوداعة الله يا نعش والينه .. هاي هيّه يو بعد تلفينه
وحينما وافى المشيّعون بنعش خادم أهل البيت (عليهم السلام) الصحن العلوي الشريف رقى المنبر الشاعر الحاج رسول محيي الدين وجاء بشعر ونثر فيما يخصّ المرحوم الملاّ عبد المحمّد ثمّ وجّه في آخر كلامه سؤالاً إلى ذلك الجمع من المشيّعين وكان سؤاله بهذه الصورة (سؤال ونفي) :
(قال) :
هل هذا التشييع الفخم لعالم ربّاني - لا
هل هو لزعيم أو شيخ من كبار شيوخ القبائل - لا
هل هذا التشييع إكراماً لأولاده وذويه - لا
فما هذا التشييع وما هذه المواكب إلاّ إحتراماً وإكباراً وتقديراً لخادم أخلص في خدمته لسيّد الشهداء ، ألا لعن الله قوماً تركوا ريحانة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أبا عبد الله الحسين (عليه السلام): ملقىً ثلاثاً بلا غسل ولا كفن ـ قد خالف القوم فيه الشرع والسننا ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم .
عبد المحمّد ...
في ذمّة الله ... إلى دار الخلود والنعيم الدائم .. والسعادة التي ليس فوقها سعادة .. لقد تحققت أُمنيّتك في مجاورة ساداتك الأطهار الميامين (عليهم السلام) .. في الدنيا وفي الآخرة إن شاء الله .. ولنعم عُقبى الدار .. ويكفيك في الدنيا ما خلّفت من ذكريات عبقة هي باقية ما بقي الدهر .. تُذكر بها وتُشكر .. فرحمك الله وضاعف لك الأجر على ما قدّمت لأهل بيت النبوّة (عليهم السلام) من خدمات لها أثرها في النفوس فيما مضى وفيما يأتي من الزمن ..
وكلّما تذكّرت كلمة العالم الجليل النبيل «الميرزا آقا الشيرازي» (نوّر الله مرقده) التي رنّ صداها حيث قال : ـ والتي كانت في شهر محرم الحرام ـ فقال : «لو دار الأمر بين أن أُصاب بالحُمّى الشديدة في أيّام عاشوراءوبين أن يمرض «الملاّ عبد المحمّد» لاخترت الحمّى لنفسي دونه حتّى يخرج ويرثي أهل البيت (عليهم السلام)» وذلك لأثره في النفوس ، نعم ; كلّما تذكّرت هذه الكلمة وأمثالها مما قيل فيك أيّها العبد الصالح غَبَطْتُكَ على إخلاصك وطلبت من الله أن يُوفّقنا إلى السير على طريقتك .
وإحياءً لذكرك أُقدّم هذه الأبيات رثاءً لك وتأريخاً ليوم رحلتك ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم :
«نَمْ في الجنانِ مُخلّداً ومُنعّماً»
عبدَ المحمّدِ إنَّ فقدكَ نكبةٌ .. فيها أُصيب المنبر المِعْطَاءُ
قد كنتَ أنتَ لسانَه الهدّارَ لا .. يُثنيك عنه تهرّم أو داءُ
فيه وجدنا بعد موتكَ فجوةً .. قد لا يقومُ بسدّها الشُعراء
فالناسُ تنهلُ من تراثك ما لها .. عمّا تركتَ بغيره استغناء
«نَمْ في الجنانِ مُخلّداً ومُنعّماً» .. والطاهرونَ هُنالِكَ الرُفقاء
فإليكَ في الدنيا ستبقى دائماً .. بين البريّة صفحةٌ بيضاء
وإليكَ في الأُخرى مقامٌ شامخٌ .. هو من إلهكَ منحةٌ وعَطَاء
وأُولو التقى كلّ لفقدكَ عينُهُ .. منها تَجَارَتْ دمعةٌ حمراء
وَدَعْتك ألسنة الصّلاح بلهفة .. ولها تعالى في نِداكَ بُكاء
مُذَ غبتَ عنّا مات من تأريخنا .. «وحيٌ فغاب عن الوجود سناءُ
«1389 هجري»
محمد سعيد المنصوري الخطيب
نموذج من قريضه :
« في وَصْفِ عَطَشِهِ (عليه السلام) »
يا قتيلاً في الإبا مصرعهُ .. والهدى سالت له أدمعهُ
هو سرٌّ والعُلى يودعهُ .. تحت بطنان ذرى العرش المجيد
* * *
يا لظام وهو في جنب الفرات .. لم يذقْ من مائِهِ عند الممات
وبكفّيه جرت عين الحياة .. يستقي منها قريبٌ وبعيد
* * *
كدخان ثائر حال الظما .. بين عينيه وما بين السما
أوردتهُ السمر بالطعن دما .. والظبى ألقتهُ شلواً في الصعيد
==***==***==***==***==
نموذج من شعره الشعبي :
شجاعة أبي الفضل وبطولته في كربلاء بين يَدي الحسين (ع)
ساقي عطاشه كربله العبّاس .. يا حي أبو فاضل
راعي الفخر والمرجله العبّاس .. يا حي أبو فاضل
فارس وإبن عمرو العله العبّاس .. يا حي أبو فاضل
بالكون شايع صيت إله العبّاس .. يا حي أبو فاضل
بالحرب شبه الزلزله العبّاس .. يا حي أبو فاضل
چفّه يحلّ المشچله العبّاس .. يا حي أبو فاضل
خدّامه عنده مدلّله العبّاس .. يا حي أبو فاضل
حامي الظعن والعايله العبّاس .. يا حي أبو فاضل
راعي العزم والمنزله العبّاس .. يا حي أبو فاضل
شبل الفحل عقد الوله العبّاس .. يا حي أبو فاضل
ومعاجزه متواصله العبّاس .. يا حي أبو فاضل
كلها بدفتره مسجّله العبّاس .. يا حي أبو فاضل
عمّك العبّاس يا مهدينه .. گطعوا إيساره إلعده وايمينه
ندري ما تنسه مصايب كربله .. أو دمعتك عالوجن دايم سايله
يمته نورك يشع بفجوج الفله .. اتطالب ابثاراتك أو ترضينه
رحمه الله رحمة واسعة وحشره مع مواليه محمّد وآل محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم).