السيد حيدر الحلي
أسرته
لا أغالي إذا قلت ان العراق له نصيبه الاوفر في سجل الادب العربي من صدر الاسلام حتّى يومنا هذا، كما لا أغالي أيضاً إذا قلت أن مدينة (الحلة) بلد الشاعر لها النصيب الاوفر من هذا النصيب، ولعلي في غنى عن الادلاء بالبرهان، غير أنّ ماجاء في كتابي (البابليات)الماثل للطبع والذي اقتطفته من كتابي الكبير (أدب العراق في القرون المظلمة) سيكشف عن سرّ هذا القول.
وإذا ما نظرنا ملياً نجد ان مدينة (الحلة) الزاخرة بالادباء في القرون الثلاثة الماضية قد استطال فيها بيت الشاعر واتضحت اسرته وضوحاً غمر تأريخ الادب في هذه المدينة، فقد أجتمع لهذا البيت مالم يجتمع لغيره على الاكثر من أسباب وعوامل أدت إلى خلوده وانتشار صيته كما أن شاعرنا استطال من بين هذه الاسرة واحتل أسمى مقامٍ فيها، فأتفق له ما لم يتفق لغيره في سير الادباء، فتراه شاعراً وابن شاعر وابن أخي شاعر وحفيد شاعر وأباً لشاعر وعماً لشاعر.
أما كونه ابن شاعرك فأبوه السيد سليمان الصغير شاعر مُجيد سجلنا له شعراً كثيراً في كتابنا وهو من الشعر المقبول، ساجل فيه فريقاً من شعراء عصره.
وأما كونه ابن أخي شاعر فعمّه السيد مهدى السيد داود من أشهر مشاهير شعراء عصره وشيخ من شيوخ الادب في عهده وديوانه المخطوط كافٍ لان يعرب عن مكانته السامية في صرح الادب الرفيع.
وأما كونه حفيد شاعر فجده السيد سليمان الكبير من مؤسسي دولة الادب في (الحلة) فقد نزلها في سنة 1175هـ وامتزج بأعلامها وساجل الافذاذ منهم كالنحويين والشيخ أحمد بن حمد اللّه، والشيخ درويش بن علي الفقيه، ومحمد بن اسماعيل الشهير بأبن الخلفة.
وأما كونه والد شاعر فابنه السيد حسين شاعر أديب أشترك في رثاء أبيه وساجل الادباء من أخدانه، ونال مكانة مقبولة بين أخوانه الادباء.
وأما كونه عم شاعر فابن أخيه الشاعر المفلق السيد عبد المطلب الحلي الذي شارك في بعث النهضة الادبية، وديوانه حافل بالقصائد الوطنية ومحاربة الاستعمار الانكليزي بصرامة وقوة وعقيدة.
فهذه المصادفات لم تتفق إلاّ لافراد يعدّون بالاصابع في تأريخ الادب العربي وأسرته من أنبه الاسر الحلّية وأعرفها في المجد والسؤدد والعلم والادب، وقد انتشرت في كافة ربوع العراق مابلغ عددها الالاف، ومعظمهم أصبح يتولى شؤون الزراعة.
نسبه
هو أبو الحسين: حيدر بن سليمان بن داود بن سليمان بن داود بن حيدر بن أحمد بن محمود بن شهاب بن على بن محمد بن عبد اللّه بن أبي القاسم بن أبي البركات أبن القاسم بن علي بن شكر بن محمد بن أبي محمد الحسن (الحسين) الاسمر بن شمس الدين النقيب بن أبى عبد اللّه أحمد بن أبي الحسين (الحسن) علي بن أبى طالب محمد بن ابى علي عمر الشريف بن يحيى بن أبي عبد اللّه الحسين النسابة بن أحمد المحدث بن أبى علي عمر بن يحيى بن الحسين ذي الدمعة بن زيد الشهيد بن الامام زين العابدين علي بن الامام الحسين السبط بن الامام علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم، صريحة يعرب وعنوانها، وفخر عدنان ومجدها، وما أجدره بمصداق قول أبي تمام الطائي.
نسب كأنَّ عليه من شمس الضحى***نورٌ ومن فلق الصباح عموداً
كما هو مصداق قوله رحمه اللّه:
نسبٌ عقدن اصوله ***بذوائب العلياء فروعه
ولادته ونشأته:
ولد المترجم له في الحلة 15شعبان من عام 1246هـ ونشأ بها يتيماً فقد مات أبوه وهو طفل صغير فتولى تربيته عمه السيد مهدي السيد داود على أرقى الاساليب التربوية إذ ذاك وتعهده كما يتعهد أحد أولاده، فقد شمله برعاية وعناية، وقربّه منه وجعله ثالث ولديه في الميراث، وترى أثر هذا العطف يبدو عليه في الحزن الذي شمله والذي أعرب عنه في رثائه لعمه هذا بقوله:
اضبا الردى انصلتي وهاك وريدي ***ذهب الزمان بعدّتى وعديدي
مما ستقرؤها في المجلد الثاني من هذا الديوان فقد سار على النهج الذي رسمه له من تتبع الفضائل والتحلي بها، وانصرف إلى صقل مواهبه التي خلقت منه شاعراً فاق عمه في كثير من الحلبات الادبية، ولا بدع فقد غذاه عمه بما وسعه أن يغذيه من لبان أدبه وعلمه، وأورثه كثيراً من صفات الرجولة والبطولة.
شعره وشاعريته
لعل التحدث عن شاعرية السيد حيدر في غنى عن البسط والتحليل بالنظر لما عرفه الادباء وغيرهم، ولما سمعوه ووعوه من شعره الذي طرق الاسماع وخاصة في الرثاء، فلقد نال إعجاب الجميع وهيمن على مشاعرهم فامتلكها، ولقد كنت يوماً في مأتم فتليت قصيدته التي مطلعها:
تركت حشاك وسلوانها*** فخلي حشاي وأحزانها
برواية جميلة واضحة، فشاهدت جماعة الادباء قد سادهم إصغأٌ وتفكير وعند الفراغ سألت الذي عن يميني هل تستطيع أن تعامّل هذه الظاهرة في الوقت الذي غمر الناس الحزن في هذا اليوم (عاشر المحرّم) أجابني: وكيف تعجب وشعر السيد حيدر يأخذ بالاديب فيحلّق بهإلى أجواء واسعة من الفن والخيال، كما يشغل التفكير برصفه وحسن انسجامه وبليغ قوله ومليح نكته، وكيف تعجب والسيد حيدر أمير شعراء الرثاء الذين خلدوا مع واقعة الطف خلوداً لا يطرأ عليه التلاشي ولا النسيان.
حقاً ان السيد حيدر شاعراً مجلّسي في كافة الحلبات، فقد كان يشعر بالزعامة الادبية رغم منافسة أعلام الشعر في النجف له وملاكمتهم إيّاه، ولعل القصة التي ذُكرت غير مرة وهي: عندما رثى العلامة السيد ميرزا جعفر القزويني بقصيدته المعروفة:
قد خططنا للمعالي مضجعا***ودفنا الدين والدنيا معا
وسكوت أُدباء النجف عن الاستعادة والاستجادة لها دفعه أن يثور ثورته التي خاطب بها الاديب الكبير الشيخ محسن الخضري بقوله: (إذا كان في المجلس من أعتب عليه لصمته وتغافله عن أداء حق هذه المرثية فهو أنت) فلم يبق للشيخ الخضري إلاّ أن أجابه بقوله:
ميزتني بالعتب بين معاشر***سمعوا وما حىٍُّّ سواي بسامع
أخرستني وتقول مالك صامتاً*** وأمتنّي وتقول مالك لاتعي
مما أوجب أن يتضاءل أمامه الادباء من خصومه وينسحبوا عن تعصبهم ويضجوا بالاستحسان لمرثيته والاستعادة لها، والاشادة بها.
وما ذلك إلاّ لان السيد حيدر أديب قرأ الكثير من شعر العرب وحفظ المجلدات من أخبارهم، وتتبع الفصيح من أقوالهم، والمأثور من كلامهم، والبديع من صناعتهم، لذا تراه في شعره فصيح المفردات، قوي التركيب، بديع الصنعة، وقلَّ أن تشاهد شاعراً متأخراً سلم من المعايب كما وقع له، يصطاد اللفظ الرقيق ويقرنه بمعنى أرق منه دون أن تجد نبوة أو حشوة، ومن ذلك فقد فات على بعض الادباء ملاحظاته وأغراضه الشعرية والتبس عليهم قصده وما يرمي اليه، وهاك مثلاً واحداً وهو بيت من مرثيته للامام أمير المؤمنين علي (ع) وهو:
وانقلب الاسلام للفجر بها***للحشر إعوالاً على مصابه
بينما الصحيح: وانقلب السلام للفجر، فقد فاتهم قصده الذي لاحظه بالاشارة إلى قوله تعالى (سلام هي حتّى مطلع الفجر) من سورة القدر وقد سبقت الاشارة إلى ذلك ببيتين منها بقوله:
لقد أراقوا ليلة القدر دماً***دماؤها انصببن بانصبابه
وكثير من أمثال هذا تجده في هامش هذا الديوان مما يتضح لك عدم الالتفات والخطأ الذي وقع في المطبوع.
ولتفوق السيد حيدر ونبوغه أسباب وعوامل شحذت ذهنيته وأذاعت صيته أهمها بيئته التي نبغ فيها وصراعه العنيف مع الشعراء والعلماء، ومراثيه لجده الحسين وتسجيله واقعة الطف فقد كان ينظم فيها بلهجة الاروع الموتور، وللعامل الاخير أبلغ الاثر فقد دفع بكثير من أعلام عصره أن يفضله على كثير من الشعراء الذين تقدموه والذين تأخروا عنه كالسيد الرضي ومهيار وكشاجم والكعبي والكوازين والاعسمين ولقد سبق أن ذكرت في ترجمتي لشيخ الادب الشيخ حمادي نوح الحلي رأيه وتفضيله لشاعرين: الاول أبو الطيّب المتنبي، والثاني السيد حيدر الحلي، كما حدثني أحد شيوخ الادب اليوم الشيخ قاسم الملا الحلي ماقاله العلامة السيد ميرزا صالح القزويني لصاحب الديوان عند سماعه مرثية منه لبعض الاعلام: إنَّ رثأَك يحببُ الينا الموت) وهي كلمة وإن لم تكن مبتكرة ولكنها شهادة قيّمة تصدر
من زعيم ديني وأديب كبير، وان هيام الاسر العريقة في العراق وخطبهم لوداده واحترامهم له يدلنا بوضوح على ماله من منزله كبرى بين أخدانه من الشعراء الذي كثر عددهم في عهده، ولقد سُمع من العلامة الكبير السيد مهدي القزويني أنه كان يمدحه ويثني عليه ويفضله على جميع الشعراء من المتقدمين.
مراثيه لال البيت
إن أدب الرثاء عند العرب قبل الاسلام وبعده بقليل كان محدوداً وله قالب خاص لايحيد عنه الشاعر لضيق دائرة المتوفى والصفات التي لحقته مهما بلغ الفقيد من العظمة، حتّى صار أكثر الادباء يعتقدون من جراء ذلك بأنَّ فن الرثاء أضيق دائرة من غيره من سائر فنون الشعر كالغزل والنسيب والمدح والفخر والحماسة والوصف إلى غير ذلك، ولكن فن الرثاء بعد (واقعة الطف) أخذ يتطور بشكل خاص لما حدث في هذه الواقعة من عوامل وأسباب تتعلق بصميم الخلافة الاسلامية من جهة، ومن جهة اخرى اصطدمت بالشعور الانساني لما جرى فيها من فضائع وأهوال، وهتك لحرم مصونات، وقتل لاطفال أبرياء مما أثار كوامن النفوس البشرية على الاطلاق.
ولو تأملنا في معرفة الفروق التي حدثت بين أدب الرثاء قبل وقعة الطف وبعدها لرجعنا إلى البيت الذي تغنت به الركبان من كونه أحسن بيت قيل فيه وهو قول ليلى بنت طريف ترثي أخاها:
أيا شجر الخابور مالك مورقاً***كأَنك لم تجزع على ابن طريف
ومع مافي هذا البيت من سموّ فانّه يتضاءل أزاء فن الرثاء بعد وقعة الطف، ولو دققنا النظر في معرفة مقياس تطوره لظهر لنا أن أدب الرثاء عند الفراتيين سما إلى أن بلغ الذروة من هذا الفن، لما أتصف به أدباء الفرات من خيال خصب، وذهن متوقد، وفكر نيّر، وشجاعة مشفوعة بعروبة متواصلة، حقاً إذا ما بعثت هذه الواقعة هذا الاثر، فقد تعاقبت الزمر تلوم الزمر يندبون بطلها الامام الحسين بشتى الاساليب وبمختلف اللغات، وقد عرف لهذه الواقعة شعراء خلدوا بخلود هذه الواقعة آخرهم صاحب الديوان، فقد ناح جده الامام الحسين وأولاده الائمة من بعده نوح الثكالى، وخلّد له في هذا الميدان من القطع التي حازت على الاعجاز الادبي بكونها تتضوع كلما كررت على السمع.
عُرف صاحب الديوان كما تناقلت الرواة أخباره أنه موتور لم يهدأ في كل عام يمر عليه دون أن يسجل فيه مثالب قاتلي جده الامام الحسين ومنتهكي حرمته بأنواع من القول تعدت إلى ماوراء التصور.
ولقد حاز على قصب السبق من جراء ذلك في هذا الميدان الطويل الذي جرى فيه رهط كبيرٌ من أعلام الشعراء فكان السبّاق والمجلّي، هاك فاقرا أبياتاً من شعره الذي سجله بمذاب القلب بقوله:
عجباً للعيون لم تغد بيضا***لمصاب تحمر فيه الدموع
وأسىً شابت الليالي عليه***وهو للحشر في القلوب رضيع
أين ما طارت النفوس شعاعاً***فلطير الردى عليه وقوع
فأبى أن يعيش إلاّ عزيزاً***أو تجلّى الكفاح وهو صريع
فتلقى الجموع فرداً ولكن*** كل عضو في الروع منه جموع
زوج السيف بالنفوس ولكن***مهرها الموت والخضاب النجيع
أحسب أن هذه الابيات لا تحتاج بمعناها الرفيع إلى ايضاح لما حوته من نكت البديع بحسن انسجام ورصانة تركيب لقوله: (زوج السيف بالنفوس) فلا بدع اذا كان المرحوم أمير الشعراء أحمد شوقي بك مفتوناً بشعر هذا العميد حينما اجتمع به أحد طلاب البعثة العراقية في طريقه إلى (السوربون) فقال له إقرأ لي شعراً فراتياً فقرأ له من شعر بعض الشعراء المعاصرين فقال له: لا:!! إقرأ:
عثر الدهر ويرجوا أن يقالا***تربت كفّك من راج محالا
وأتم القصيدة له، إذاً حق لشوقي أن يعجب ويعجب!! لانه لا يعرف العظيم إلاّ العظيم كيف لا وقد جلل شعره فنُ البديع بأنواعه من مقابلة إلى جناس إلى تورية، كما نجد ان (البيان) قد حف به لاقتران اللفظ بالمعنى، ولا ننسى أنه هو الذي يقول:
يلقى الكتيبة مفرداً***فتفّر دامية الجراح
وبهامها اعتصمت مخا***فة بأسه بيضُ الصفاح
وتسترت منه حيأً في ***الحشا سمر الرماح
أفهل سبق أن سمعت من المتقدمين والمتأخرين قائلاً: وتسترت منه حيأً في الحشا سمر الرماح، وهل تعتقد بأن هذا شعر ينتزعه الشاعر من مخيلته ساعة أن يشأ.
كلا بل كما قال الاستاذ الجواهري
إنه ذوب قلوبٍ***صيغ من لفظٍ مذاب
ولعلك لا تصدق إذا قلت إن ديوانا كاملاً كله على هذا الاسلوب من المتانة والانسجام قد تداخلت فيه جميع أنواع الشعر غير انَّ ظاهره الرثاء، واليك مايقوله في الحسين وفتيانه البواسل:
غداة أبو السجاد جاء يقودها***أجادل للهيجاء يحملن أنسرا
عليها من الفتيان كلّ ابن نثرةٍ***يعدُّ قتير الدرع وشياً محبّرا
أشمّ إذا ما أفتضّ للحرب عذرة ***تنشقّ من أعطافها النقع عنبرا
من الطاعني صدر الكتيبة في الوغي*** إذا الصف منها من حديد توقرا
فما عبروا إالاّ على ظهر سابحٍ***إلى الموت لما ماجت البيض أبحرا
فان يمس مغبر الجبين فطالما***ضحى الحرب في وجه الكتيبة عبّرا
وان يقض ظمآناً تفطّر قلبه***فقد راع قلب الموت حتّى تفطرا
تجلى لك أيها القارئٍّ الكريم ماذا أدخله الشاعر على فن الرثأ من اسلوب بديع، وفنٍ مبتكر، فبينما تجده في صدر البيت يرثي فيقول: فان يمس مغبر الجبين.تراه قد انتقل إلى الفخر والحماس بقوله: فطالما ضحى الحرب، وهو لايزال في البيت نفسه، وهكذا الذي قبله والذي بعده، ولو تأملت في بيت واحد من هذه القصيدة الطويلة يعني به عقائل آل البيت لا ستشعرت ماغمر أدب الرثاء من الفن العجيب والاسلوب الساحر بقوله:
مشى الدهر يوم الطف اعمى فلم يدع*** عمادا لها إلاّ وفيه تعثرا
أهل سبق أن شاعراً صور فقد الثواكل لعميدها بمثل هذه اللغة الرصينة، ولا أحسب أني لو حدثتك عن هذا الشاعر وعرضت عليك صوراً من شعره أياماً وليالي يعتريك سأم أو يخامرك ملل، كيف وهو ينحت من قلبه ويقدمه لك كقوله:
وخائضين غمار الموت طافحة***أمواجها البيض بالهامات تلتطم
مشوا إلى الحرب مشي الضاريات لها*** فصافحوا الموت فيها والقنا أُجم
فالحرب تعلم إن ماتوا بها فلقد***ماتت بها منهم الاسياف لا الهمم
قومي الأُلى عقدوا قدماً مآزرهم*** على الحمية ماضيموا ولا اهتضموا
عهدي بهم قصر الاعمار شأنهم ***لايهرمون وللهيابة الهرم
لا شك أن أصدق صورة لنفسية الشاعر شعره الذي تصعده نفثات صدره وفي هذا ما أعرب شاعرنا عما كمن في قلبه من ضرام تركه هذا الحادث الفادح مما دعى أن يستنجد بقومه الذين قصرت أعمارهم لعدم قرارهم على الذل، وما أحلاه حينما يستغرق في وصفهم بقوله:
متنافسين على المنية بينهم ***فكأنّما هي غادة معطار
سمة العبيد من الخشوع عليهم***لله ان ضمتهم الاسحار
واذا ترجلت الضحى شهدت لهم***بيض القواضب أنهم أحرار
فهل تأملت هذه المقابلة البديعية، عبيد وأحرار، وضحى وأسحار، وعبثاً أحاول أن أحيطك بالجيد من شعره وبين يديك ديوانه الذي يشهد بأنه أمير فن الرثاء بلا منازع.
أكتفي بهذا القدر فلقد سبق أن نشرت مقالاً طويلاً في السنة الاولى من مجلة (البيان) تحت عنوان (وقعة الطف وتأثيرها على الادب العربي) بحثت فيه أدب الرثاء في القرون الاسلامية وعند الفراتيين وذكرت أسماء الاعلام الّذين ساهموا في بعثه وتوسع دائرته وفي الطليعة منهم صاحب الديوان، اقتطفته من كتابي (شعراء الحسين).
شعوره بالزعامة الادبية
نقرأ من خلال آثار صاحب الديوان فنجد أنه كان مؤمناً بالزعامة الادبية والتفوق على شعراء عصره، فكثيراً ما تراه يصرح بذلك في رسائله وشعره وأحاديثة وخاصة عندما يحتدم غيضاً، فمن ذلك قوله:
من رسالته إلى العلامة الميرزا صالح القزويني (فلقد علم هذا العصر، أني لسانه الذي انتهت اليه مقالة الشعر) ومن قوله:
وأنا الذى لم يسخ بي أحد***إلاّ غدا ونديمه الندم
واذا اهتززت لمدح ذي كرمٍ***فأنا لسانٌ والزمان فم
ومما يؤكد لنا شعوره بالزعامة الادبية كونه رثى هذا الامام مع مناورته له وعتابه إياه، ذلك العتاب المر، في حين أن العادة جرت على خلاف ذلك، فلقد علم هو أن القزويني عندما اختلف معه لم يؤثر كل منهما على مقام الثاني، فقد رثاه حين الوفاة العشرات من الشعراء البارزين وأصنافهم من الشعراء الناشئين مما دعا أن تؤلف كتب لا ستيعاب ذلك النتاج، لذا رأى شاعرنا ان العزلة والسكوت يفضيان إلى نسيانه وخسارته مكانته الادبية، وإذ ذاك حرص إلاّ أن ينزل الميدان ليهيمن على ذلك الجو الادبي وليعلم الجميع أنه الفارس السباق فكان ما أراد، مفضلاً مواصلة شعوره على الاختلاف والبرودة التي حدثت بينه وبين الفقيد، ولم يبق هذا الشعور دون أن أصبح حقيقة ثابتة فكان اذا سافر إلى سامراء لزيارة الامامين العسكريين والحجة الشيرازي قدس سره يصحبه في ركابه مائة شاعر وتراه في طليعة الركب مرتدياً حلته الخضراء، فكان الامام الشيرازي يرعاهم لرفقتهم معه، وتعريفه لهم عنده.
محاكمة لشعره
انفرد صاحب الديوان عن كثير من شعراء عصره بعدة ظواهر منها كونه حاكم شعره في حياته، فكان لاعتداده بنفسه لا يثبت القصيدة إلاّ بعد أن يقرأها المرة تلوم الاخرى وبعد الاطمئنان يقرؤها على رهط من فحول الشعراء بعد اعطائه لهم حريّة النقد والمناقشة فاذا ما تم كل ذلك وافق على نسبتها له، لذا تراه أوّل ما عني بمراثيه لال البيت (ع) فكان لا يذيع القصيدة إلاّ بعد أن يمّر عليها عامٌ واحد ومن ثمّ يخرجها ويقرؤها ليذيعها في الاندية وبهذا عُرفت مراثيه بـ (الحوليات) لاشتمالها على شعر رصين مركز خالٍ من الحشو والسفسطة، وإذا ما وجد له شعر ركيك فما ذلك إلاّ مما لم يقرأ باسمه في حينه، ولم ينسب اليه في وقته.
منزلته الاجتماعية
تسالم الشيوخ والمعمرون بنقلهم على أنّ السيد حيدر كان من الشخصيات المرموقة ذات الحول والطول والشأن والرفعة، قد خلص من شائبة النقد، وترفع عن أن ينال بسوء، لما اتصف به من مزايا وصفات رفعته في عيون الاعلام من معاصريه، ولعل الذي لم يتوغل في دراسة عصره الاجتماعي لا يتصور خطورة صاحب الديوان وما حباه اللّه من حيثية ومكانة، فقد احترمه الزعيم الديني والسياسي والقبلي في آن واحد.
وأحبه الاعيان والوجوه لانه من بيت عريق عتيد بالنسب والقدسية، فبالاضافة إلى ماتقدم من ذكر أسماء الشعراء من أسرته فان فيهم العلماء والاطباء والزهّاد والناسكين، وهذا مايبدو جليّاً لمن وقف على مكانته وتقديس الناس له.
ويكفي شاهد واحد هو احترام الزعيم الدينى العام له إذ ذاك وهو الامام السيد ميرزا حسن الشيرازي فقد كان يستدعيه إلى سامراء ليستمع إلى شعره ويتلذّذ بمجلسه وقصة واحدة تعطينا صورة سامية عن مقامه الرفيع أثبتها على عهدة العلامة المعاصر الشيخ محمد علي الاوردبادي فقد قال: حدثني الحجة السيد ميرزا علي أغا نجل الامام الشيرازي قال: عندما هنّى السيد حيدر والدي بقصيدته الهمزية رأى أن يكرّم الشاعر بعشرين (ليرة) فاستشار ابن عمه العلامة السيد ميرزا اسماعيل الشيرازي في ذلك فأبى وقال لابن عمه الامام: ما قولك في دعبل والكميت ومنزلتهما عند الامام الصادق (ع) فهل هما أفضل أم السيد حيدر وهو ابن رسول اللّه؟ فقال أنه لافضل منهما، قال إذاً يجب أن تكرمه بأقصى ماتشعر من أنواع التكريم، فلم يبق للامام الشيرازي دون أن صحب معه مائة ليرة وذهب لزيارته وعندما دخل عليه تناول يد شاعرنا فقبلها بعد امتناع شديد.
فهذا القصة لو لم يكن الرواة لها ثقاة لا متنع السمع من قبولها لان الامام الشيرازي عرف سيرته القاصي والداني أن الملوك والسلاطين كانت تزوره وتخضع له احتراماً لمقامه الديني.
وكان العلامة الكبير السيد مهدي القزويني يجلسه إلى جنبه ويقدم له اعجابه وإكباره وكان ناديه حافلاً بالادباء والشعراء والمعوزين لشعوره بمكانته وزعامته، وتراه إذا دخل نادياً او محفلاً يقوم له إجلالاً كل من فيه سواء كان عالماً او حاكماً أو وجيهاً، وكثيراً ماكان يتعهده الوالي مدحت باشا بالسؤال عن صحَّته والاستفسار عنها.
نفسيته واباؤه
يتضح من سيرة صاحب الديوان أنّه أبي النفس سامي الشعور بالكرامة، لم يرضخ للذل ولم يهدأ على حسك الهوان، ولعله من المؤمنين بهذا الرأي: (من تسالم الناس على حبه فهو ضعيف، ومن تسالم الناس على بغضه فهو خبيث، ومن اختلف فيه فهو العظيم)، لذا تراه في شعره يعرب عن صلابة وايمان بنفسه وقومه، ولعل الاختلاف الذي حصل بينه وبين العلامة الميرزا صالح كان باعثه اعتداده بنفسه وشعوره بخطورته ومنزلته، وقد قوى هذا الاختلاف وجود عوامل اخرى منها مساندة الامام الشيرازي للعلامة السيد علي العذاري ابن عم صاحب الديوان وجعله ممثلاً عاماً له في الحلة، وابتعادة عن تأييده للميرزا صالح مما جعل العاطفة تجد مجالاً للدخول في صفوف المنطق، ولوجود عناصر اخرى تحتاج إلى شرح طويل، فقد دفعته جدّيته وصرامته أن يكوّن معسكراً قبال زعيم له كل الاثر في العلم والحكم، واستمر الرأي دون أن يثني عزمه أحد، ولست بحاجة إلى ضبط السبب الذي عكّر الصفو غير أني استشعر أن قصيدته للعلامة الميرزا صالح كانت سبباً لاجابة القزويني بلهجة لم تخل من لذع وقسوة لم يتعود سماع مثلها صاحب الديوان مما دعاه إلى أن يجيبه برسالته الطويلة المثبتة في آخر الديوان والمتضمنة للقصيدتين الامر الذي دعانا أن نهمل إثباتهما في باب العتاب.
ميزة خاصة
يبدو للقارىالكريم من خلال هذا الديوان ثلاث ميزات:
1ـ رثاؤه لجده الامام الحسين (ع) ونياحته له فقد كان ثكلاً بفقده طيلة حياته، لذا تراه مقروح الفؤاد ثائر الاعصاب عندما تقرأ له هذا اللون فتجده أصدق الرثاء، وأنه أقوى من سائر شعره وأمتن.
2ـ صلاته بآل كبه: لم تكن هذه الصلة حادثة فقد سبق لعمه المرحوم السيد مهدي السيد داود أن كان كثير الاتصال بهم مما دعاه أن يؤلف كتاباً يبقى كذكرى للوّد والاخاء سماه (مصباح الادب الزاهر)(2) ضمنه كثيراً من الصور الادبية التي تساعد على معرفة مقاييس الادب في عهده، وعلى هذا الضوء سار صاحب الديوان على نهج عمه ومربيه في الاتصال بهذه الاُسرة الكريمة التي عرفت في جميع الاوساط العراقية بمساندتها للادباء وتشجيعها للعلماء، فألف لهم كتابه (دمية القصر في ادباء العصر) وأعرب في شعره عن حب وعواطف تثور في مختلف المناسبات التي تحدث عندهم من قران أو وفاة أو عودة من غياب، مما لم يفلت ذكر واحد منهم كبر أو صغر، غير أن ذكر علم واحد منهم تجلّى في الديوان هو العلامة الحاج محمد حسن فقد اقترب من نفس شاعرنا كثيراً مما ولّد هذا القرب النفسي أن يؤلف باسمه كتابه (العقد المفصّل).
3ـ آل القزويني: وهذه الاسرة ظهرت في الديوان ظهوراً بارزاً مما دلّت على بالغ القرب من نفس شاعرنا وحبه لهم واعتداده بأعلامهم الذين رسخت أقدامهم في الزعامة الدينية، كما بادلوه الحب واصطفوه خلاً وساعداً يساجلونه ويطارحونه، وينتدبونه في مختلف المناسبات لتمثيلهم والتصوير لقصدهم.
وفاته
توفي المترجم له في مسقط رأسه في الليلة التاسعة من ربيع الاول سنة 1304هـ وحمل نعشه إلى النجف بموكب مهيب مؤلف من علماء وأعيان ووجوه الحلة ودفن مما يلي رأس الامام علي (ع) في أول (الساباط) إلى جهة الشمال، وكان لذاك اليوم رنّة حزن وأسف عميقين في سائر الاوساط العراقية عامة ويوم عظيم في النجف، فقد عطلت المدارس في سامراء والنجف بأمر من الامام الشيرازي حداداً على فقده ومن غريب الصدف ان نزل الغيث يوم وفاته كأفواه القرب بعد أن امتنع زمناً أحسّ الناس فيه بالجدب، ورثاه جميع شعراء عصره بقصائد كثيرة أثبتنا في آخر المجلد الثاني المعظم منها والذي أختاره الشاعر السيد عبد المطلب الحلي كما أثبتنا مدائح الشعراء له.
آثاره الادبية
خلّف المترجم له أربعة كتب أدبية:
1 ـ ديوان شعره المسمى بـ (الدر اليتيم) سنتحدث عنه بقسميه المخطوط والمطبوع.
2 ـ العقد المفصل: وهذا الكتاب قيّم ممتع ألفّه لصديقه العلامة الشيخ محمد حسن كبه، سجل فيه مآثره وآثاره، وما قاله فيه وما قيل في الاسرة من نظم ونثر وكثيراً من أخبار الادباء والشعراء، والنكت اللطيفة والقطع الملذة، كما تطرّق إلى ذكر سائر فنون الادب وعلومه، والانساب والاخلاق وصفات العرب وعاداتهم وأخبار الملوك والامراء والوزراء ونوادر البلغاء وبلاغات النساء ووصف الجمال، كما تعرض إلى السرقات الادبية وذم السراق من الشعراء واختلاسهم شعر غيرهم والافتراء بالانتحال، والمفاضلة بين الشعراء وإثبات قطع لهم تميّز بينهم، وذكر وقائع تأريخية وحوادث دموية كل ذلك كان يتطرق اليه ضمن حديثه عن صديقه، فالكتاب لا يتعدى عن كونه موسوعة أدبية مصغّرة نالت اعجاب آل كبه ومعاصريهم من الادباء الاعلام حتّى قرضّه الشعراء بقصائد كثيرة، معظمها كانت تخص المؤلف لا الكتاب.
رتبه على مقدمة وثمانية وعشرين باباً وخاتمة، وقد تكلم في المقدمة التي استوعبت 152 صفحة عن حياة صديقه وفي خلالها شواهد وحكايات على طريقته المعروفة، اما الابواب فقد التزم فيها على حروف الهجاء مفتتحاً كل باب بمقطوعة من الشعر لا تقل عن اثني عشر بيتاً تنقّل فيها ماشاء له إطلاعه وبرهن على غزارة في المعلومات واحاطة واسعة، واما الخاتمة: فقد ذكر فيها قسماً من شعر الشيخ محمد حسن كبه مما لم يذكره في المقدمة ومساجلاته مع أعلام الشعراء من معاصريه كالحبوبي والقزويني والشيخ صالح الحريري وأمثالهم، طبع في بغداد بمطبعة الشابندر سنة 1331هـ في جزئين الاول في 288 صفحة والثاني في 232 صفحة.
3 ـ دمية القصر في شعراء العصر: وهذا الكتاب لايزال مخطوطاً، وقد قرضه بنفسه فقد وجدت بيتين في مجموعة الشيخ محمد الملا الحلي يشيران إلى ذلك هما:
تمتع بها موسومة بمحاسنٍ*** تعطر أفواه الرواة بنشرها
آتاك بها الاقبال يدعو مؤرخاً***لدارك زف المدح (دمية قصرها)
ويظهر من هذا التأريخ وهو سنة 1275 ه أنه فرغ من تأليفه.
4 ـ الاشجان في مراثي خير إنسان: جمع فيه مراثي صديقه العلامة السيد ميرزا جعفر القزويني، وقد قدَّم لكل قصيدة مقدمة خاصة كتعريف لصاحبها باسلوبه المعروف، يوجد هذا الكتاب في مكتبة الامام كاشف الغطاء برقم 68 من فهرست الدواوين ويقع في 138 صفحة عدد سطور الصفحة15، طوله 22سم وعرضه15سم، وسمكه 5/2، وبضمنه عدّة رسائل.
وقد وضع له ذيلاً العلامة الشيخ علي كاشف الغطاء صاحب كتاب (الحصون المنيعة) جمع فيه كل ما قيل في رثاء آل القزويني وبعض الرسائل والمقامات التي تبادلوها مع الشعراء والكتاب والعلماء.
ديوانه المخطوط
عرف الباحثون خطورة الاثار المخطوطة والاحتفاظ بها، كما عرفوا ما أصابها من تدمير وتشويه من جراء الحوادث التي مني بها العراق خلال الحكم العثماني و(الطواعين) التي كانت لاتبقي ولا تذر، وبذلك كان نصيب معظمها التلف والنسيان، وديوان السيد حيدر على قرب عهدنا منه كادت أن تقبض عليه يد النسيان لو لم يهيء اللّه نفراً يرعى ذمة الادب والتدوين سجل ما وصل اليه من شعر صاحب الديوان في حين أنه كان قد جمع بعض ماقاله وأهداه إلى صديقه الحاج محمد حسن كبه ولكنه لم يمثل كل ماقاله من الشعر مما حفّز هذا النفر أن يتتبعوا شعره ومنهم ابن عمه الشاعر الشهير السيد مرزا الحلي فقد جمع ما استطاع أن يجمع، وتبعه فريق من المولعين في الجمع والتدوين سجَّلوا في المجاميع المخطوطة بعض ماوصل اليهم أيضاً، غير أن بعضهم لم يتثبت من جهة، والبعض الثاني كتب من دون أن يثبت الاسم الصريح مما جعلنا نتوقف من الركون إلى اثباته باسمه فقد جاء كثير من الشعر معنون بمختلف العناوين منها ـ لابي الحسين الحلي، للسيد الحلي ، لابي سليمان الحلي، وأمثال ذلك من الامور التي تجعلنا نتوقف من اثباته في هذا الديوان، ومثال ذلك ما عثرنا عليه في بعض المجاميع:
أىٍّّ وقتٍ به لنفسي تصفو***لذة الانس في وصال الحبيب
ولو أنا في الطيف نخلو لا مسى***معنا حاضراً خيال الرقيب
وتعد أثّرتْ (وقعة عاكف التركي) في الحلة بشكل خاص على فقدان قسم كبير من شعر صاحب الديوان فقد ذهب مع ماذهب من المجاميع المخطوطة التي أُحرقت في هذا الوقعة سواء في دور اسرة الشاعر أو غيرها.
قوبل هذا الديوان على ثلاث مخطوطات عثرنا عليها مخطوطة صاحب الديوان وهي ببغداد يحتفظ بها شخصية كبيرة ألزمنا أن لانذيع اسمه، وتعريفها تقع في 394صفحة عدد السطور 24سطر، طولها4/19سم، عرضها5/11سم، سمكها4/2سم وتجد صورة آخر صفحة منها مثبتة هنا وموقعة بتوقيع السيد حيدر.
2ـ مخطوطة الشاعر قاسم الملا الحلي كتبها في سنة 1305هـ تقع في 456 صفحة، عدد السطور21س، طولها 7/21سم، عرضها4/15 سمكها 6/3سم، وتجد صورة أول صفحة من هذا المخطوطة مثبتة هنا.
3ـ مخطوطة الشاعر السيد مرزه الحلي ابن عم صاحب الديوان وتوجد عند ولده السيد سليمان تقع في 431 صفحة، عدد السطور 21 سطر، طولها3/22سم عرضها 2/16سم، سمكها8/3سم.
ديوانه المطبوع
يحدثنا الشاعر السيد عبد المطلب الحلي في مقدمته للطبعتين الاولى والثانية اللتين طُبعتا في (بومبي) الهند أن الديوان بقي مجهولاً لديه غير أنه خلال تردده على (سامراء) عثر عليه عند العلامة الكبير السيد حسن الصدر المتوفى 1354 هـ فقد جمعه يوم أن كان يختلف صاحب الديوان على سامراء، وبذلك فقد كان خير عون على احيائه خلال الزمن الذي مضى، وبعد النظر من السيد عبد المطلب والتماس السيد الصدر تولى نشره الشيخ علي المحلاتي مرتين على الحجر، ولكن جاء هذا النشر من باب (الوجود الناقص خير من العدم) فقد مُسخ فيه الشعر وفاتت بسبب ذلك أمور كثيرة من أغراض الشاعر ومقاصده، والسر هو ان كاتب المطبعة رجل ايراني لا يحسن رواية الشعر وقد استعان بنسخة رديئة الخط كان قد كتبها الشاعر المنسي الشيخ حسن امصبح الحلي سنة 1306 هـ مما أوجب أن تصبح الطبعتان لا تمثلان كل شعر السيد حيدر كما لم يعول على ضبطهم.
اسلوبه الفني
ليس بمقدور كل شاعر أن يصبح ناثراً ولا عكس، غير انَّ بعضهم ممن وهبوا مقدرة أدبية واسعة أتقنوا الصناعتين وأجادوا فيهما إجادة المتخصص الفنان ومنهم صاحب الديوان، ولقد عرف الادباء ان اسلوب العصر الاموي والعباسي ذو الطابع الخاص بقي يتمشى اثره بقوة لاستمرار حتّى القرون الثالث عشر الهجري، بيد أن الرصانة والتركيب وجزالة اللفظ أخذت تهزل شيئاً فشيئاً حتّى عادت سقيمة خالية من الحياة، واستمرت على هذا الوضع طيلة القرون المظلمة إلى أن انتعشت في النصف الثاني من القرن الثالث عشر، ولعل خير مصداق على ما نقول رسائل السيد حيدر واسلوبه فقد جاء رصيناً محكماً تجمعت فيه روعة البديع بأنواعه، واليك قطعة من رسالة له بعث بها إلى صديقه الحاج محمد رضا كبه قوله: (سلام فتّقت نَورَ زهره صبا الحبّ، وأعربت أنفاسُ نشره عن طىٍّّ سريرة الصبّ، ورقّت الفاظه حتّى سرق النسيم طبعه من رقتّها، ونفحت بريّا الاخلاص فقراته حتّى استعار العبيرُ المحض طيبه من نفحتها، وما هي فقرات في الطروس قد وسمت، بل روح محب أذابها الشوقّ وفي قالب الالفاظ قد تجسّمت، فلو نشق أرواحَ عرفها من غشيتهُ سكراتُ الموت لصحا، ولو سرّحَ النظر في لؤلؤ الفاظها ذوُ الطبع السليم لسحرت عقله وماس منها مرحا).
اولاده وعقبه
خلف أولاداً ثلاثة:
1ـ السيد سليمان توفي في عهده ولم يعقب ورثاه بعدة قصائد تجدها مثبتة في الديوان.
2ـ السيد حسين: شاعر أديب نبغ بعد وفاة أبيه وترّفع عن مدح الناس ومرثيته لابيه تدلك على أدب مقبول، ولد في الحلة ونشأ بها على أبيه فأخذ عليه مقدمات العلوم وانتهل من نميره العذب، حدثني أحد شيوخ الادب اليوم الشيخ قاسم الملاّ الحلي فقال: كان كريم الطبع، سخي النفس، رحب الصدر، دمث الاخلاق، كثير الاضياف، اشتغل على إثر وفاة أبيه بالزراعة وساند المرحوم الحاج مصطفى كبه عند هجرته للحلة هو والحاج عبود مرجان بالتزامه أراضي (الشوملي) وقد ذهب شعره في وقعة عاكف السفاح التركي حيث أحرقت داره ودار السيد عبد المطلب، وبذلك ذهب كثير من التراث الادبي مما أحدث ثغرة في صرح مجد الادب الحلي، توفي صبح الليلة التي توفي فيها السيد عبد المطلب وذلك عام 1339هـ عن عمر ناهز الستين عاماً ودفن في النجف، أعقب ثلاثة أولاد 1ـ السيد عباس وقد توفي سنة 1363 هـ وقد أرّخ وفاته شقيقه السيد محمد بقوله:
لقد حلّ قبراً في ثراه سما عُلىً***فأرّخ (وقل قبرً من القدس داخله)
وهو شاعر أديب له شعر في رثاء جده الحسين والائمة 8 ومدائح في والده والاسرة، أعقب ولدين وهما (محمد علي وحسين) لا زالا في قيد الحياة، 2ـ السيد محمد: اديب عثرت له على مقاطيع شعرية وشعره ذهب في وقعة عاكف توفي في السابع من صفر سنة 1367 هـ درس مقدمات العلوم هو وأخوه السيد عباس في النجف مدة أربع سنوات، مات ولم يعقب 3ـ السيد حيدر وجيه معاصر يشتغل بالزراعة ويتذوق الادب والشعر له عقب واحد هو السيد حسين.
3ـ السيد علي: أديب ينظم الشعر المقبول درس المقدمات في الحلة على أبيه، توفي عام 1342هـ عن عمر جاوز الخمسين عاماً ودفن في النجف) أعقب ستة أولاد 1ـ حسين 2ـ محمد 3ـ مهدي 4ـ سليمان 5ـ حيدر 6ـ راضى.