(1)
أنا الأرضُ بِنْتُ السَّماءْ
فَهَلْ تَعْلَمُونَ بِنَزْفي، وَهَلْ تَعْبَؤُونْ؟
أنا (الكَفُّ) حِينَ تُوَزِّعُ وَردَ الوَفاءْ
وتَحْنُو على كُلِّ قَلْبٍ تَدَثَّرَ بِالياسَمِينِ
وتَفْهَمُ مَنْ أجْهَشُوا بِالبُكاءِ إذا نَظَرَتْ لِلْعُيُونْ
أنا الأُمُّ تَفْتَحُ أهدابَها مَرفَأً لِلطُّفُولَةِ والدَّمْعُ سِيرَتُها في العَطاءْ
وفَوقَ الجَبِينِ تَجاعِيدُ خَمْسِينَ عامًا تُناهِزُ لَهْفَتَها لِلحَبيبِ الذي أَنْزَلَتْهُ بِأَضْلاعِه ذاتَ جُرْحٍ، وَقَصَّتْ على العابِرينَ حَكايا المَساءْ

أنا رِئَتاها اللَّتَانِ تَحَمَّلَتا قَلَقَ الأسئِلَةْ
وأَعرِفُ سِرَّ المَنافي التي تُخْبِرُ الغَيْمَ عَنْ عُزلَةٍ مُقبِلَةْ
أنا شَمعةٌ / دَمعةٌ / دَهْشَةٌ / كائِنٌ مِنْ ضِياءْ
أنا (كَربَلاءْ)

يُحَدِّثُكَ العُمْرُ عَنْ جَسَدٍ أَنْهَكَتْهُ الجِراحُ وعَنْ مُدُنٍ ضَاعَ صَوْتُ العَصافِيرِ فيها، فَكَيفَ سَتَستَقْبِلُ الطِّفْلَةُ الآنَ قِربَةَ ضَوْءٍ مُراقْ؟ وكَيفُ سَتَشْرَحُ لِلَّيْلِ حُزْنَ الفِراقْ؟
عَلَى صَهْوَةِ المُهْرِ حُلْمٌ تَرَجَّلَ فارِسُهُ، سَلْ ذِراعَيْهِ: كَيفَ يَكُونُ الوُجودُ رَحِيمًا، وكَيفَ يُطِيلُ الأحِبَّاءُ قَبْلَ الرَّحِيلِ العِنَاقْ؟

(2)
تُنادِيكَ تِلْكَ الرُّؤُوسُ المُضِيئَةُ فَوقَ الرِّماحْ:
تَهَيَّأْ، لِتَعبُرَ جِسْرَ النِّهايَاتِ فَالضَّوءُ في آخِرِ الدَّربِ لاحْ
رأيتُكَ مُسْتَغْرِقًا في التَّضَرُّعِ، مُسْتَسْلِمًا لِلدُّمُوعْ
شَمَمْتُ أَرِيجَ الخُزامَى يَفُوحُ، فقَد جَالَتِ الخَيْلُ فَوْقَ الضُّلُوعْ
تُعِدُّ الرُّؤَى لَكَ طِينًا، فَتَنْفُخُ فِيهِ لِيُوْلَدَ طَيْرُ الصَّبَاحْ
ويَحْمِلَ رَعْشَةَ قلبٍ وَفِيٍّ إلى (ذِي الجَنَاحْ)
رَأَيْتُ الجِهَاتِ مُكابِرَةً كَمَرايا مُهَشَّمَةٍ لَمْ تَعُدْ تَعْكِسُ الحُبَّ، لكنَّ أَرضَكَ شاسِعةٌ يا بْنَ أُمِّي، وَمِنْ حَوْلِكَ البَحرُ حَيْثُ المِياهُ تَبُثُّ الإباءَ وحَيْثُ الشِّراعُ صَدِيقُ الرِّياحْ
سَيُوْلَدُ مَطلَعُ هذي القَصِيدَةِ مِنْ مَوعِدٍ سَجَّلْتْهُ النَّسائِمُ قُرْبَ الضِّفَافْ
قليلٌ مِن الوَحْيِ يُوْرِقُ يَا أيّها الواقِفُونَ عَلَى رُقْعَةٍ لِلْجَفافْ
هُنا يَسْتَشِفُّ البُكَاءُ الغِيابْ
لِمَاذا يَظَلُّ السُّؤَالُ طَوِيلًا بِغَيْرِ جَوَابْ؟
أمَامَ مُخاتَلَةِ القَوْمِ تبقَى الأمَانَةُ في قَولِهِ:
(رَشِّفُوا الخَيْلَ) لا تَمْنَعُوا المَاءَ عَنْهُمْ
تَدُورُ الأحادِيثُ بَيْنَ القُيُودِ وَحُريَّةِ الأُمْنِياتْ
وبَيْنَ السُّيُوفِ وَوَردِ الحَيَاةْ
وَبَيْنَ الفَرَاشَاتِ والنَّارِ، والتَّلِّ والغَارِ، واليَوْمِ والذِّكرَياتْ
عَلَى هَامِشِ الجُرْحِ ذاكِرَةٌ كالقَصِيدَةِ مَمْهُورَةٌ بِالشَّجَنْ
فَقُلْ: (لا) لِمَوتِكَ حِينَ يَثُورُ الغُبَارُ علَى مَسْرَحِ الانتِصَارِ
هُنا وَقْفَةٌ لِلزَّمَنْ
هُنا يَتَوارَى الضَّبَابْ

(3)
خُذُونِي كَما المَاءِ، إِنَّ القَصِيدَةَ ظَمْأَى
وَدَدْتُ الكَلامَ ولكنْ هُنا يَأْخُذُ الصَّمْتُ شَكْلَ الكلامْ
خُذُونِي إلى حِكْمَةٍ تَتَدَلَّى عَناقِيدُها كَالخُطُوطِ الرَّشِيقَةِ فَوْقَ الرُّخَامْ
خُذُوني لأقرأَ ما أَنْزَلَتْهُ اللَّيالِي بِتِلْكَ الخِيامْ
فَقَلْبِي صَدِيقُ الألَمْ

وَكُونُوا مَعِي ما استَطَعْتُمْ لأَخْرُجَ مُنْتَصِرًا رَغْمَ قَسْوةِ هَذا الهُزَالِ، ورَغْمَ النِّصالْ
فَرَأْسِي الذي اشْتَعَلَ الحُزْنُ فِيهِ أرانِي نَصِيبِي مِنَ الجَزْمِ والاحتِمَالْ
قَمِيصُكَ هذا المُضَرَّجُ بِالعِطْرِ يُشْرِعُ نافِذَةً لِلوَصَايا وَيَدْنُو مِنَ المُتْعَبِين، وَبَابُكَ بابُ اليَقِينْ
هُنَا خَلْفَ نافِذَتي يَسْمَعُ الماءُ رَجْعَ الصَّهِيلِ، وصَوْتَ العويلِ، وَهَمْسَ الظِّلالْ
وَيَسْأَلُ عَنْ كُلِّ تَنْهِيدَةٍ لِلْيَتَامَى الذينَ يَبُثُّونَ حُرْقَتَهُمْ زَفْرَةً زَفْرَةً، دَمْعَةً لا تَزالْ
يَسِيرُ المُضَحُّونَ فِي مَوكِبٍ لا يَعُودُ إِلى الخَلْفِ، هذا طَرِيقُ النِّضَالْ
فأبْصَارُهُمْ لَكَ شَاخِصَةٌ، وَالخُطَى لا تَضِلُّ السَّبِيلْ
وَمَاضُونَ هُمْ مِثْلَما أنتَ نَحوَ المَصِيرِ الجَمِيلْ
وراياتُهُمْ بِيَدِ اللهِ مَرفُوعَةٌ لا تَمِيلْ
أمامَ اختِبارِ النَّوايا بَقَوا صامِدِينْ
وكانُوا يَضِجُّونَ بِالحَيَوِيَّةِ كَالنَّحلِ
مِنْ أَيْنَ أبدأُ سَردَ الرِّوَايةِ يَا أَيُّها القادِمُونَ مِنَ الفِكْرَةِ العَبْقَرِيَّةِ كَالمُسْتَحِيلْ؟
وَيَا مَنْ بِهِمْ يتَعَافَى الزَّمَانُ الحَزِينْ
إذا شَحَبَ الوَجْهُ حَدَّ الذُّبُولِ فَأنتُمْ لَهُ العُنْفُوانْ
وَمِنْكُمْ تَعَلَّمَ هذا الوُجُودُ ثَبَاتَ الجَنانْ
هَنِيئًا لَكُمْ مُذْ فَرَشْتُمْ لَنا الدَّرْبَ بِالزَّعفَرانِ وَبِالأُقْحُوَانْ

(4)
هنا جَذْوَةٌ لا تَؤُولُ إلَى الانْطِفاءْ
ودَقَّاتُ قَلْبٍ يَنامُ بِها الأوفِياءْ
ومَنْ كَشَفُوا ما سَيَحْدُثُ في الغَيبِ واتَّخَذُوا مَوْضِعًا غَابَ عَنْ أعْيُنِ النَّاظِرِينْ
لَهُمْ جَنَتَّانِ، ونَهْرٌ يقولُ: كَفَى يَا عَذابَ السِّنِينْ
هُنَا وَطَنُ الأنبياءِ العَصِيُّ علَى الانْحِناءْ
هُنَا نَقْرَأُ الحُبَّ في لُغَةِ الرَّاحِلِينْ
وَنَحْمِلُ لِلْغَدِ حَبَّاتِ طَلْعٍ نَضِيدْ
لِتُوْلَدَ أَحلامُنا كالعَذَارَى، وتُثْمِرَ نَخْلاتُنا مِنْ جَدِيدْ
إذا ما تَعِبْنا شَرِبْنا كُؤُوسًا مُشَبَّعَةً بِالتَّجَلُّدِ والعِشْقِ حَتَّى نَكُونْ
وجِئنا نُفَتِّشُ عَنْ مُدُنٍ لا تَخُونْ
غَرِيبُونَ، أنْتَ تُبَدِّدُ وَحْشَتَنَا يا غريبْ
وتَرْفَعُنا كُلَّما عَلَّقُونا عَلَى خَشَبٍ كالصَّلِيبْ
وأنتَ إذا انْتَصَفَ العُمْرُ تُسدي لَنا لحظةَ الوَعْيِ
إنَّ الزَّمانَ يَمُوجُ بِأقسَى صُنوفِ المآسي
فَخُذْ بِيَدِ النَّاسِ نَحوَ الأمانْ
وحَلِّقْ بِهِمْ كَالتَّحَرُّرِ مِنْ كُلِّ قَيْدٍ، سَيَمْتَلِكُونَ بِحُبِّكَ ما يَتَجَاوَزُ حَدَّ المَكَانِ وَحَدَّ الزَّمانْ
هُوَ الصَّبْرُ إِكْسِيرُ هذي الحَياةِ التي يَشْتَهِي الحَرْفُ فيها وِصالَ النَّشِيدْ
أَلَسْتَ الذي يَحْمِلُ الدَّمَّ لِلقَلْبِ مِثْلَ الوَريدْ؟
وَهَلْ تَتَذَكَّرُ بَيْتًا مِنَ الشِّعْرِ مَرَّ فَأَشْعَلَ قِنْدِيلَ طِفْلٍ تَحِنُّ لَهُ أُمُّهُ كُلَّ يَومٍ
هُنا كُلُّ شَيءٍ عَدا المَوتِ يَصْدَحُ بِاسْمِ الشَّهيدْ
فَتَصْحُو دِماءُ القَمَرْ

(5)
لِمَنْ تَفْتَحُ العَيْنُ أَجْفَانَها كُلَّ صُبْحٍ لِمَنْ؟
وَمَنْ يَجْمَعُ الآنَ شَمْلَ الوَطَنْ؟
وماذا تَبَقَّى مِنَ الدَّرْبِ؟
نَحنُ على بُعدِ حُزْنَينِ مِنْ وَطَنٍ ظَلَّ يَحْمِلُ تَحتَ القَصِيدَةِ جَمْرَ الوِدادِ، ووَرْدَ الحِدادْ
وما زالَ يَصْحَبُ ظِلَّ كَرامَتِهِ باتِّجاهِ الفُؤادِ، وَيَرسمُ بَسْمَةَ أحبابِهِ الغائِبينَ عَلَى ثَوْبِ عِيدْ
لَعَلَّ الذي كانَ يَرجُوهُ يَومًا يَكُونُ، لَعَلَّ الحَنينَ يُقَرِّبُ كُلَّ بَعيدْ
هُنا المِلْحُ والحُلْمُ، والتِّبْرُ والتُّرْبُ، والبَحْرُ والرَّحْبُ، كَيفَ تَضِيقُ بِنا الأُمْنِياتُ التي نَشْتَهِيها كمَا تَشْتَهِي الأَرْضُ عُشْبَ السَّلامْ؟
لَنَا مِنْكَ حُبٌّ أَرادَ لَهُ اللهُ أَنْ يَسْتَمِرَّ بِغَيْرِ اخْتِتَامْ
لَنا مِنكَ سَبْعُ سَنَابِلَ نَحتاجُها حِينَ يَفْتَرِسُ القَحْطُ أَوْطانَنا بَعدَ عامْ
تَنَفَّسْ بِعُمْقٍ، وَكُنْ حَيْثُ تَبْنِي العَصافيرُ أعشاشَها في أمانٍ
غدًا يَنْحَنِي الماءُ مَوجَةَ عِشْقٍ تَسِيلُ لِتَغْسِلَ أَوْجَاعَ كُلِّ الأنامْ

Testing
عرض القصيدة