سفرٌ حيثُ الهُويّةُ
سنة 2015
أمّي تسافرُ للعراقِ
لتبكيَ الدمَّ المعتَّقَ في سنينِ الجدْبْ
لتبثَّ شوقًا عمرُهُ خمسونَ عامًا
طعمُهُ في حلقِها كالعلقميِّ
عشيةَ الليلِ الأخيرْ
أمي تُعِدُّ لرحلةٍ مخضوبةٍ بدمِ الحسينِ
مشوبةٍ بالذكرياتِ النادباتِ
الباكياتِ على ظهورِ الهُزَّلِ الثكلى
ينتابُها صوتُ الحسينْ
ويفتُّها عطشُ الحسينْ
وحداؤُها مِنْ كربلاءَ إلى الشِّآمِ:
" يا نفسُ مِنْ بَعدِ الحسينِ هُوني
وبعدَهُ لا كُنْتِ أنْ تكوني"
أمّي تسافرُ للعراقْ
وأنا أسافرُ للأنا
الحزنُ يمخرُ في عبابي غصّةً تلدُ الغصصْ
تستلُّني سيفًا تثلّمَ
أغنياتٍ تَرْيَقَتْ وجعي الكسيرْ
أأخونُ زينبَ
والهلالُ الليلةَ انغمسَتْ يداهُ بدمعِها؟!
أأخونُ زينبَ
والليالي العشرُ تنعقُ في الفضاءاتِ الحبيسةِ
سوفَ يأتي
والترابُ الخبّأَتْهُ بقلبِها زوجُ الرسولِ
سيستحيلُ دمًا ونارًا وانفجارْ
هل تصبرِينَ؟
وأرى شقيقي يستغيثُ فلا يُغاثْ!!
هل تصبِرينَ؟
وأراهُ مرمًى للسيوفِ وللخيولِ!!
هل تصبِرينَ؟
صبرًا يذيبُ الصبرَ،
مرًّا أحتويهِ
مُذِ احتوى قلبي الصغيرُ وصيةَ الزهراءِ
إذْ حانَ الأفولُ:
فإذا رأيتِ أخاكِ ودّعَ أهلَهُ
متوشّحًا بالموتِ مكسورَ الجناحِ
فقبِّلِيهِ بصدرِهِ
شُمّيهِ موضعَ نحرِهِ
واسترجعي
صبرًا سيخجلُ منهُ حتّى الصبرُ في آتي الزمانِ
وستقشعرُّ لهُ جلودُ الصخرِ
لو علِمَتْ بأنّ أُخَيّةً سمعَتْ أخاها في وصيّتِهِ
يقولُ:
أوصيج يختي عْمامتي شيليها
بلجن يعود الدّهر وارجعْ ليها
أأخونُ زينبَ؟!!
* * *
أمّي تشدُّ رحالَها
وتعدُّ أمتعةَ السفرْ
مِنْ بينِها كفنٌ وتربةْ
وأنا أسافرُ للغوايةِ والتشرذمِ بينَ حالاتٍ
وحاناتٍ غريبةْ
يحتزُّ نحرَ قوافلي شمرٌ، ويسحقُني وَطَر
ويريقُني دمعٌ تكثّفَ في عيونٍ أبصرَتْ
بينَ السما والأرضِ أطنانَ الدخانِ
عطِشٌ حسينٌ يا دموعُ فهرولي
وتبخَّري بالشمسِ تصهرُ خدَّهُ
ثمّ انزلي برْدًا عليهِ
ولملميهِ للحظةِ النَّزْعِ الأخيرةْ
نادِيهِ يا وجعَ العراقْ
يا وردةَ الطفِّ المهشّمةِ العبير
آتيكَ فردًا شاخصًا بصري إليكَ
متنصّلاً مِنْ زندقاتي في هواكَ
وتائبًا مِنْ كلِّ طهرٍ لا تكونُ له إلهًا
أو يباركُهُ رضاكَ
فامسحْ على رأسي
وعطّرْني بروحِكَ كي أسافرَ للعراقِ
وأمّيَ المشتاقَ قبلَ رحيلِها
لأبثَّ شوقًا عمرُهُ نصفُ اشتياقِ الوالدة
لأراكَ تفتحُ لي ذراعَكَ
مرحبًا
يا الفاقدة