شعراء أهل البيت عليهم السلام - رأس حبيب "قصة قصيرة"

عــــدد الأبـيـات
0
عدد المشاهدات
2138
نــوع القصيدة
فصحى
مــشــــاركـــة مـــن
تاريخ الإضافة
19/11/2011
وقـــت الإضــافــة
1:16 مساءً

رأس حبيب "قصة قصيرة"

سيد جعفر الفرزدق الديري

إن أخطأت العين، فلا يمكن أن تخطيء هذا الرأس. إنه يشعّ أمامها بما يشبه وهج الشمس. لا مكان لأيام تقبل دون أن تضعه موضعه وتواريه التراب، وحسبها أن صبرت حتى هذا الحين!.

إندفعت مثل حمامة وجدت عشّها بعد لأي. كنت أراه يجوب من مكان إلى آخر ممسكا بالرأس الشريف، يقابل هذا فينتشي فخورا بنفسه، ويقابل ذاك فيكشّر عن أسنان صفراء.

في قصر بن زياد، حيث تقدّم القرابين إلى آلهة الدم، وجدت "بديل بن صريم" لا يترك مكانا دون أن يثير فيه الضوضاء، لم يوفر مكانا في القصر يجتمع فيه الناس، إلا وغشيه والفرح الأسود يتجسد شيطانا في عينيه. كان يرفع الرأس بانتظار ما يجود به بن زياد. كان يفاخر، إن رأس حبيب أغلى الرؤوس، طالما حلم به بن زياد، تقدم إليه بدمها وعنفوانها.

لم أكن بحاجة لمعرفة الطريقة التي مات بها أبي!. كانت كلمات "بديل" تصلني فتزيدني لوعة: "كان بطلا لا شك في ذلك!. يجب على بن زياد مكافأتي بسخاء، قتلت سيد القراء، لقد انهدّ جيش الحسين بعد موته"!.

أوّاه يا أنياب الذئاب... انهشي ما شئت من أجسام زكية، إياك أن تلقي أذنا صاغية لضمير يحذرك العاقبة، أو تستمعي لصوت يذكّرك بأيام كنت فيها جائعة عطشى، فوجدت الملاذ لدى حبيب وأصحابه. يكفيك الفزع الذي يطلّ من عيون الأمهات وهن يجدن بأعناقهن حفاظا على عفاف بناتهن! يكفيك ملامسة الوجوه الكالحة وقد غشيتها سحابة الجوع!.

حسبك ما أنت فيه يا بديل! خبّر الناس أي رجل كان حبيب، أكان يدور بخلدك أنك ستقتل شيخ الأنصار! ارفع صوتك ليسمع كل من في القصر بل حتى من هم خارجه!.

كانت عيناي قد تحوّلتا إلى بحيرتين في ليلة ظلماء وأنا أستمع الى بديل، كان يحدث القوم عن مقتل حبيب، كان أبي ينتصب أمامي مثل شلال هادر وضعت السدود أمامه!. "حتى هذه الساعة لست بمصدّق أني نجوت من عيني حبيب، لم تزعزعني عن هدفي مهابة ذكرتني بعلي، كان بن خمسة وسبعين، وكأني به وقد اندفع إلى الميدان كأنه بن عشرين، أحطنا به فازداد جرءة وشراسة، حاولنا النيل منه دون جدوى. كان قد قتل منّا اثنين وستين، لكني لم أتراجع أليس من حقي أن أنتشي طربا اندفعت لا ألوي على شيء سوى رأسه. أنا بديل بن صريم ضربته على رأسه، أي والله، لم أصدق عيني "تهاوى كالجسر على الأرض"، حاول القيام فعاجلته بطعنة من رمحي.

بلى أنت حقيق بالفخر وأنا بالدمع، كانت أمي قد أخبرتني أنه ذهب متاجرا، كنت أرى أبي فلا يخالجنى شك في أنه الصلاة نفسها؛ تلك الجبهة والعينين وذينك الكفين نافورتين تمسحان على رأسي، فأخال نفسي أسبح في بحر لجي، حتى استيقظت يوما فلم أجده في البيت.

لكنني أراه اليوم في كفك يا بديل! لقد ظللت أتبع خطاك، ولا أخالك ستحرم يتيما من رأس أبيه! أتذكر الغدائر التي طالما مسحت عليها؟ أتذكر اللبن الذي كان يسقيك أبي، والثريد الذي طالما أكلت منه وصدرت شبعانا؟!. هبني رأس أبي لكي أواريه التراب، سأهبك جميع ما لدي!.

رفض بديل، وعندما تأكد من أني القاسم قال بلين: "لا أستطيع بني" لماذا؟ ألم تعاهد أبي على مساعدتي؟! أنا لا أطلب منك شخص حبيب!.

أجابني في حرص من اعتاد سفك الدماء: "إن وهبتك رأس أبيك فلن أنال جائزة بن زياد". صحت بكل ما في العين من رمد: سأعطيك ما تطلب من مال، فقط أعطني رأس أبي!.

أية روح عفنك انتشرت من إهابك يا بديل؟! ابتسم ابتسامته التي تشبه كلبا مضى وقت طويل على موته: "لكني أريد اطلاع بن زياد على ما فعلت، ولن يقبل بأقل من تهشيم وجه أبيك!.

ليت السماء والأرض أطبقتا علي ولم أقف موقفي منك، إلى أي قرار سحيق تحدّرت، إلى أية هوّة لا نهاية لها تردّت روحك؟ أتحرم سيد القرّاء من رأسه طمعا في ثواب بن زياد. "لكن الله لا يثيبك على ذلك إلا أسوأ العذاب.. أما والله لقد قتلت خيراً منك".

بكيت لعجزي لصغر سني لعزّة نفسي، لتطلع أجدادي وقومي اليّ، أأعجر عن دفن رأس أبي، كيف لي أن آخذ بثأره اذن؟!. أنا القاسم أشعر وكأني أناطح صخرة لا قوة لي عليها.

ما بالي أتوارى خارجا من القصر؟ مالي أندفع هاربا من جنود بن زياد؟ أنا بن حبيب أفرّ من المواجهة. كان صوت يهمس أذني: بني ليس الآن عد إلى أمك فارعها، لا أحد سواك لها.

بلى سأعود، لن أترك للحية الرقطاء فرصة لتأكل ما تبقى من كبريائي...

دقات قلبي تكاد تخلعه، ذاك بديل لم يتغير. كنت غرّا ليس له من قوّة الساعد أو الايمان ما يكفل له قتلك من أجل الله!. "قتلت شيخ الأنصار، سيد الكوفة برا وخيرا، العابد الزاهد الذي لم يأكل عمره لقمة حرام، ولم يترك ليلة دون صلاة الليل"، قتلت ثقة ذبيح كربلاء، ولابد من إرسالك الى الجحيم.

راقبت المكان جيدا، لا أحد يلحظني في الفسطاط، هذا جيش مصعب بن الزبير يعسكر استعدادا لغزو باجوراء. أنت في هذه الصفوف دائما، لا مهرب لك من شهوة الدم والمال، دخلت هذه الحرب من أجل الدنيا كما دخلتها من قبل!.

بلى... انني أتطلع الى كل الجهات أراقب هذا وذاك، وأخيرا وجدتك في الفسطاط يا بديل. لا أخالك نائما! إن خنجرك عند رأسك ويدك على مخبا ثوبك، ما أتعسك اذ تقدم المال على عنقك!.

تقدمت في السن يا بديل، حتى انك لم تلحظ هذا الذي أخذ خنجرك ووضع حد سيفه على رقبتك...

فتح بديل عينيه ومد يده إلى خنجره، ولمّا لم يجده تطلع إلي بعينين غشيهما الفزع، قال في صوت مبحوح:
من أنت؟

نزعت لثامي فتبدت غرّة أبي، الفزع يكاد يملأ وجهك بثورا يا بديل...
حبيب
بلى حبيب لكنني القاسم أطلب ثأر أبي

خار كما يخور الثور، تلوى ناهقا كالحمار بديل، وارتمى على الأرض جثة هامدة.
Testing